وَقَوْلُهُ: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا﴾ أَيْ: يَجِيؤُوكَ (١) لِيَسْمَعُوا قِرَاءَتَكَ، وَلَا تُجْزِي عَنْهُمْ شَيْئًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ ﴿عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً﴾ أَيْ: أَغْطِيَةً لِئَلَّا يَفْقَهُوا الْقُرْآنَ ﴿وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا﴾ أَيْ: صَمَمًا عَنِ السَّمَاعِ النَّافِعِ، فَهُم كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً [صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ] (٢) ﴾ [الْبَقَرَةِ: ١٧١].
وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا﴾ أَيْ: مَهْمَا رَأَوْا مِنَ الْآيَاتِ وَالدَّلَالَاتِ وَالْحُجَجِ الْبَيِّنَاتِ، لَا يُؤْمِنُوا بِهَا. فَلَا فَهْم عِنْدَهُمْ وَلَا إِنْصَافَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ [وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ] (٣) ﴾ [الْأَنْفَالِ: ٢٣].
وَقَوْلُهُ: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ﴾ أَيْ يُحَاجُّونَكَ وَيُنَاظِرُونَكَ فِي الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ ﴿يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ﴾ أَيْ: مَا هَذَا الَّذِي جِئْتَ بِهِ إِلَّا مَأْخُوذٌ مِنْ كُتُبِ الْأَوَائِلِ وَمَنْقُولٌ عَنْهُمْ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾ وَفِي مَعْنَى ﴿يَنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ يَنْهَوْنَ النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَتَصْدِيقِ الرَّسُولِ، وَالِانْقِيَادِ لِلْقُرْآنِ، وَيَنْسَأُونَ عَنْهُ أَيْ: [وَيَبْتَعِدُونَ هُمْ عَنْهُ، فَيَجْمَعُونَ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ الْقَبِيحَيْنِ لَا يَنْتَفِعُونَ] (٤) وَلَا يَتْرُكُونَ أَحَدًا يَنْتَفِعُ [وَيَتَبَاعَدُونَ] (٥) قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ قَالَ: يَنْهَوْنَ النَّاسَ عَنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ: كَانَ كَفَّارُ قُرَيْشٍ لَا يَأْتُونَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ.
وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَمَّنْ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ كَانَ يَنْهَى [النَّاسَ] (٦) عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ يؤذى (٧)
(٢) زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية".
(٣) زيادة من م، وفي هـ "الآية".
(٤) زيادة من م، أ.
(٥) زيادة من م.
(٦) زيادة من أ.
(٧) رواه الطبري في تفسيره (١١/٣١٣) والحاكم في المستدرك (٢/٣١٥) من طريق سفيان به.