رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ، وَقَالَ: عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ الْمِقْدَامِ بْنِ شُرَيْحٍ، بِهِ (١)
وَقَوْلُهُ: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ أَيِ: ابْتَلَيْنَا وَاخْتَبَرْنَا وَامْتَحَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ﴿لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا﴾ وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم كان غَالِبَ مَنِ اتَّبَعَهُ فِي أَوَّلِ الْبَعْثَةِ، ضُعَفَاءُ النَّاسِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ، وَلَمْ يَتْبَعْهُ مِنَ الْأَشْرَافِ إِلَّا قَلِيلٌ، كَمَا قَالَ قومُ نُوحٍ لِنُوحٍ: ﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ﴾ الْآيَةَ [هُودٍ: ٢٧]، وَكَمَا قَالَ (٢) هِرَقْلُ مَلِكُ الرُّومِ لِأَبِي سُفْيَانَ حِينَ سَأَلَهُ [عَنْ تِلْكَ] (٣) الْمَسَائِلَ، فَقَالَ لَهُ: فَهَلِ (٤) اتَّبَعَهُ ضُعَفَاءُ النَّاسِ أَوْ أَشْرَافُهُمْ؟ قَالَ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ. فَقَالَ: هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ (٥)
وَالْغَرَضُ: أَنَّ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ كَانُوا يَسْخَرُونَ بِمَنْ آمَنَ مِنْ ضُعَفَائِهِمْ، وَيُعَذِّبُونَ مَنْ يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: ﴿أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا﴾ ؟ أَيْ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَهْدِيَ هَؤُلَاءِ إِلَى الْخَيْرِ -لَوْ كَانَ مَا صَارُوا إِلَيْهِ خَيْرًا -وَيَدَعَنَا، كَمَا قَالُوا: ﴿لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ﴾ [الْأَحْقَافِ: ١١]، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا﴾ [مَرْيَمَ: ٧٣].
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي جَوَابِ ذَلِكَ: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا﴾ [مَرْيَمَ: ٧٤]، وَقَالَ فِي جَوَابِهِمْ حِينَ قَالُوا: ﴿أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾ أَيْ: أَلَيْسَ هُوَ أَعْلَمُ بِالشَّاكِرِينَ لَهُ بِأَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَضَمَائِرِهِمْ، فَيُوَفِّقُهُمْ وَيَهْدِيهِمْ سُبُلَ السَّلَامِ، وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الْعَنْكَبُوتِ: ٦٩]. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ، وَلَا إِلَى أَلْوَانِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ" (٦)
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْج، عَنْ عِكْرِمة فِي قَوْلِهِ: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ﴾ الْآيَةَ، قَالَ: جَاءَ عُتْبَة بْنُ رَبيعة، وشَيْبَة بْنُ رَبِيعَةَ، ومُطعِم بْنُ عَدِيّ، وَالْحَارِثُ بْنُ نَوْفَل، وقَرَظَة بْنُ عَبْدِ عَمْرِو بْنِ نَوْفَلٍ، فِي أَشْرَافٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ إِلَى أَبِي طَالِبٍ فَقَالُوا: يَا أَبَا طَالِبٍ، لَوْ أَنَّ ابْنَ أَخِيكَ مُحَمَّدًا يَطْرُدُ عَنْهُ مُوَالِيَنَا وَحُلَفَاءَنَا، فَإِنَّمَا هُمْ عَبِيدُنَا وَعُسَفَاؤُنَا، كَانَ أَعْظَمَ (٧) فِي صُدُورِنَا، وَأَطْوَعَ لَهُ عِنْدَنَا، وَأَدْنَى لِاتِّبَاعِنَا إِيَّاهُ، وَتَصْدِيقِنَا لَهُ. قَالَ: فَأَتَى أَبُو طَالِبٍ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَدَّثَهُ بِالَّذِي كَلَّمُوهُ (٨) فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ، حَتَّى تَنْظُرَ مَا الَّذِي يُرِيدُونَ، وَإِلَى مَا يَصِيرُونَ مِنْ قولهم؟ فأنزل الله،

(١) المستدرك (٣/٣١٩).
(٢) في م، أ: "سأل".
(٣) زيادة من أ.
(٤) في أ: "هل"
(٥) القصة في صحيح البخاري برقم (٧) من حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(٦) رواه مسلم في صحيحه برقم (٢٥٦٤).
(٧) في أ: "أعظم له".
(٨) في أ: "كلموه به".


الصفحة التالية
Icon