ثُمَّ قَالَ: ﴿ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ أَيْ: إِنَّمَا حَصَلَ لَهُمْ ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ وَهِدَايَتِهِ إِيَّاهُمْ، ﴿وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ تَشْدِيدٌ لِأَمْرِ الشِّرْكِ، وَتَغْلِيظٌ لِشَأْنِهِ، وَتَعْظِيمٌ لِمُلَابَسَتِهِ، كَمَا قَالَ [تَعَالَى] (١) ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ الْآيَةَ [الزُّمَرِ: ٦٥]، وَهَذَا شَرْطٌ، وَالشَّرْطُ لَا يَقْتَضِي جَوَازَ الْوُقُوعِ، كَقَوْلِهِ [تَعَالَى] (٢) ﴿قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ﴾ [الزُّخْرُفِ: ٨١]، وَكَقَوْلِهِ ﴿لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [الْأَنْبِيَاءِ: ١٧] وَكَقَوْلِهِ ﴿لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ [الزُّمَرِ: ٤].
وَقَوْلُهُ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ﴾ أَيْ: أَنْعَمْنَا عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ رَحْمَةً لِلْعِبَادِ بِهِمْ، وَلُطْفًا مِنَّا بِالْخَلِيقَةِ، ﴿فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا﴾ أَيْ: بِالنُّبُوَّةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ: الْكِتَابِ، وَالْحُكْمِ، وَالنُّبُوَّةِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿هَؤلاءِ﴾ يَعْنِي: أَهْلَ مَكَّةَ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ المُسَيَّب، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، والسُّدِّي. ﴿فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ﴾ أَيْ: إِنْ يَكْفُرْ بِهَذِهِ النِّعَمِ مَنْ كَفَرَ بِهَا مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ أَهْلِ الْأَرْضِ، مَنْ عَرَبٍ وَعَجَمٍ، وَمِلِّيِينَ وَكِتَابِيِّينَ، فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا ﴿آخَرِينَ﴾ يَعْنِي: الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ وَأَتْبَاعَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ﴿لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ﴾ أَيْ: لَا يَجْحَدُونَ شَيْئًا مِنْهَا، وَلَا يَرُدُّونَ مِنْهَا حَرْفًا وَاحِدًا، بَلْ يُؤْمِنُونَ بِجَمِيعِهَا مُحْكَمِهَا وَمُتَشَابِهِهَا، جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْهُمْ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ وَإِحْسَانِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخَاطِبًا عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿أُولَئِكَ﴾ يَعْنِي: الْأَنْبِيَاءَ الْمَذْكُورِينَ مَعَ مَنْ أُضِيفَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْآبَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ وَالْإِخْوَانِ وَهُمُ الْأَشْبَاهُ ﴿الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ أَيْ: هُمْ أَهْلُ الْهِدَايَةِ لَا غَيْرُهُمْ، ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ﴾ أَيِ: اقْتَدِ وَاتَّبِعْ. وَإِذَا كَانَ هَذَا أَمْرًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأُمَّتُهُ تَبَعٌ لَهُ فِيمَا يُشَرِّعُهُ [لَهُمْ] (٣) وَيَأْمُرُهُمْ بِهِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ: أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ الْأَحْوَلُ، أَنَّ مُجَاهِدًا أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ: أَفِي (ص) سَجْدَةٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ تَلَا ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ﴾ ثُمَّ قَالَ: هُوَ مِنْهُمْ -زَادَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَسَهْلُ بْنُ يُوسُفَ، عَنِ الْعَوَّامِ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ أُمِرَ أَنْ يَقْتَدي بِهِمْ (٤)
وَقَوْلُهُ: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾ أَيْ: لَا أَطْلُبُ مِنْكُمْ عَلَى إِبْلَاغِي إِيَّاكُمْ هَذَا الْقُرْآنَ ﴿أَجْرًا﴾ أَيْ: أُجْرَةً، وَلَا أُرِيدُ مِنْكُمْ شَيْئًا، ﴿إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾ أَيْ: يَتَذَكَّرُونَ بِهِ فَيُرْشَدُوا مِنَ الْعَمَى إِلَى الْهُدَى، وَمِنَ الْغَيِّ (٥) إِلَى الرَّشَادِ، ومن الكفر إلى الإيمان.

(١) زيادة من أ.
(٢) زيادة من أ.
(٣) زيادة من أ.
(٤) صحيح البخاري برقم (٤٦٣٢).
(٥) في أ: "العمى".


الصفحة التالية
Icon