وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ﴾ أَيِ: الْعُقُولُ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنِ الْفَلَّاسِ، عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ أَبِي الْحُصَيْنِ يَحْيَى بْنِ الْحُصَيْنِ قَارِئِ أَهْلِ مَكَّةَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ. وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا، وَخِلَافُ ظَاهِرِ الْآيَةِ، وَكَأَنَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّ الْإِدْرَاكَ فِي مَعْنَى الرُّؤْيَةِ، وَاللَّهُ [سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى] (١) أَعْلَمُ.
وَقَالَ آخَرُونَ: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ إِثْبَاتِ الرؤية وَنَفْيِ الْإِدْرَاكِ، فَإِنَّ الْإِدْرَاكَ أَخَصُّ مِنَ الرُّؤْيَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْأَخَصِّ انْتِفَاءُ الْأَعَمِّ. ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي الْإِدْرَاكِ الْمَنْفِيِّ، مَا هُوَ؟ فَقِيلَ: مَعْرِفَةُ الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ، كَمَا أَنَّ مَنْ رَأَى الْقَمَرَ فَإِنَّهُ لَا يُدْرِكُ حَقِيقَتَهُ وَكُنْهَهُ وَمَاهِيَّتَهُ، فَالْعَظِيمُ أَوْلَى بِذَلِكَ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى.
وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ بِالْإِدْرَاكِ الْإِحَاطَةُ. قَالُوا: وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْإِحَاطَةِ عَدَمُ الرُّؤْيَةِ كَمَا لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ إِحَاطَةِ الْعِلْمِ عَدَمُ الْعِلْمِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه: ١١٠]، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: "لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ على نفسك" (٢) ولا يلزم منه عَدَمُ الثَّنَاءِ، فَكَذَلِكَ هَذَا.
قَالَ العَوْفي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ﴾ قَالَ: لَا يُحِيطُ بَصَرُ أَحَدٍ (٣) بِالْمَلِكِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعة، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادِ بْنِ طَلْحَةَ الْقَنَّادُ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمة، أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ﴾ ؟ قَالَ: أَلَسْتَ تَرَى السَّمَاءَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَكُلَّهَا تَرَى؟.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَة، عَنْ قَتَادَةَ: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ﴾ هُوَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُدْرِكَهُ الْأَبْصَارُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَرْفَجَةَ، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [الْقِيَامَةِ: ٢٢، ٢٣]، قَالَ: هُمْ يَنْظُرُونَ إِلَى اللَّهِ، لَا تُحِيطُ أَبْصَارُهُمْ بِهِ مِنْ عَظَمَتِهِ، وَبَصَرُهُ مُحِيطٌ بِهِمْ. فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ﴾
وَقَدْ وَرَدَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ حَدِيثٌ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هَاهُنَا، فَقَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا مِنْجَاب بْنُ الْحَارِثِ السَّهْمِيُّ (٤) حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عِمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: ﴿لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ﴾ قَالَ: "لَوْ أَنَّ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ وَالشَّيَاطِينَ وَالْمَلَائِكَةَ مُنْذُ خُلِقُوا إِلَى أَنْ فَنُوا صُفّوا صَفًّا واحدًا،

(١) زياد من أ.
(٢) صحيح مسلم برقم (٤٨٦) من حديث عائشة، رضي الله عنها.
(٣) في م: "أحدنا".
(٤) في م: "التميمي".


الصفحة التالية
Icon