وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْج، عَنْ عِكْرَمة؛ أن رسول الله ﷺ بَعَثَ أَبَا (١) رَافِعٍ فِي قَتْلِ الْكِلَابِ، حَتَّى بَلَغَ العَوالي فَدَخَلَ (٢) عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ، وَسَعْدُ بْنُ خَيْثَمةَ، وعُوَيْم بْنُ سَاعِدَةَ، فَقَالُوا: مَاذَا أُحِلَّ لَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَنَزَلَتْ: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ﴾ [الْآيَةَ] (٣)
وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ سِمَاك، عَنْ عِكْرِمَةَ (٤) وَهَكَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظِيّ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّهُ فِي قَتْلِ الْكِلَابِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿مُكَلِّبِينَ﴾ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي ﴿عَلَّمْتُمْ﴾ فَيَكُونُ حَالًا مِنَ الْفَاعِلِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْمَفْعُولِ وَهُوَ ﴿الْجَوَارِحِ﴾ أَيْ: وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ فِي حَالِ كَوْنِهِنَّ مكلَّبات لِلصَّيْدِ، وَذَلِكَ أَنَّ تَقْتَنِصَهُ (٥) [الْجَوَارِحُ] (٦) بِمَخَالِبِهَا أَوْ أَظْفَارِهَا (٧) فَيُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ -وَالْحَالَةُ هَذِهِ-عَلَى أَنَّ الْجَارِحَةَ إِذَا قَتَلَ الصَّيْدَ بِصَدْمَتِهِ أَوْ بِمِخْلَابِهِ وَظُفُرِهِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ، كَمَا هُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ﴾ وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا أَرْسَلَهُ اسْتَرْسَلَ، وَإِذَا أَشْلَاهُ اسْتَشْلَى (٨) وَإِذَا أَخَذَ الصَّيْدَ أُمْسَكَهُ عَلَى صَاحِبِهِ حَتَّى يَجِيءَ إِلَيْهِ وَلَا يُمْسِكُهُ لِنَفْسِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ فَمَتَى كَانَ (٩) الْجَارِحَةُ مُعَلَّمًا وَأَمْسَكَ عَلَى صَاحِبِهِ، وَكَانَ قَدْ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عِنْدَ إِرْسَالِهِ حَلَّ الصَّيْدُ، وَإِنْ قَتَلَهُ بِالْإِجْمَاعِ.
وَقَدْ وَرَدَتِ السُّنَّةُ بِمِثْلِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَدِيّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُرْسِلُ الْكِلَابَ المعلَّمة وَأَذْكُرُ اسْمَ اللَّهِ. فَقَالَ: "إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ المعلَّم وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ، فَكُلْ مَا أَمْسَكَ (١٠) عَلَيْكَ". قُلْتُ: وَإِنْ قَتَلْنَ؟ قَالَ: "وَإِنْ قَتَلْنَ مَا لَمْ يُشْرِكْهَا كَلْبٌ (١١) لَيْسَ مِنْهَا، فَإِنَّكَ إِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْرِهِ". قُلْتُ لَهُ: فَإِنِّي أَرْمِي بالمِعْرَاض الصَّيْدَ فَأُصِيبُ؟ فَقَالَ: "إِذَا رَمَيْتَ بِالْمِعْرَاضِ فَخَزق (١٢) فَكُلْهُ، وَإِنْ أَصَابَهُ بعَرْض فَإِنَّهُ وَقِيذٌ، فَلَا تَأْكُلْهُ". وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا: "إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ، فَإِنْ أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَأَدْرَكْتَهُ حَيًّا فَاذْبَحْهُ، وَإِنْ أَدْرَكْتَهُ قَدْ قُتِلَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ فَكُلْهُ، فَإِنَّ أخْذ الْكَلْبِ ذَكَاتُهُ". وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: "فَإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ." (١٣) فَهَذَا دَلِيلٌ لِلْجُمْهُورِ (١٤) وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا أَكَلَ الْكَلْبُ مِنَ الصَّيْدِ يَحْرُمُ مُطْلَقًا، وَلَمْ يَسْتَفْصِلُوا كَمَا وَرَدَ بِذَلِكَ الْحَدِيثُ. وَحُكِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ السَّلَفِ أنهم قالوا: لا يحرم مطلقا.
(٢) في د: "فجاء".
(٣) زيادة من د.
(٤) تفسير الطبري (٩/٥٤٦) والمستدرك (٢/٣١١).
(٥) في د: "تصيد".
(٦) زيادة من ر.
(٧) في أ: "وأظفارها".
(٨) أشلاه استشلى: أي دعاه إليه.
(٩) في أ: "كانت".
(١٠) في أ: "أمسكن".
(١١) في ر: "كلب ما".
(١٢) في أ: "فخرق"
(١٣) صحيح البخاري برقم (٥٤٨٣) وصحيح مسلم برقم (١٩٢٩).
(١٤) في ر، أ: "الجمهور".