﴿وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (١٦٦) ﴾
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ أَنَّهُمْ صَارُوا إِلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ: فِرْقَةٌ (١) ارْتَكَبَتِ الْمَحْذُورَ، وَاحْتَالُوا عَلَى اصْطِيَادِ السَّمَكِ يَوْمَ السَّبْتِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَفِرْقَةٌ نَهَتْ عَنْ ذَلِكَ، [وَأَنْكَرَتْ] (٢) وَاعْتَزَلَتْهُمْ. وَفِرْقَةٌ سَكَتَتْ فَلَمْ تَفْعَلْ وَلَمْ تَنْهَ، وَلَكِنَّهَا قَالَتْ لِلْمُنْكِرَةِ: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا﴾ ؟ أَيْ: لِمَ تَنْهَوْنَ هَؤُلَاءِ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُمْ هَلَكُوا وَاسْتَحَقُّوا الْعُقُوبَةَ مِنَ اللَّهِ؟ فَلَا فَائِدَةَ فِي نَهْيِكُمْ إِيَّاهُمْ. قَالَتْ لَهُمُ الْمُنْكِرَةُ: ﴿مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ﴾ قَرَأَ بَعْضُهُمْ بِالرَّفْعِ، كَأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِهِ: هَذَا مَعْذِرَةٌ وَقَرَأَ آخَرُونَ بِالنَّصْبِ، أَيْ: نَفْعَلُ ذَلِكَ ﴿مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ﴾ أَيْ: فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴿وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ يَقُولُونَ: وَلَعَلَّ بِهَذَا الْإِنْكَارِ يَتَّقُونَ مَا هُمْ فِيهِ وَيَتْرُكُونَهُ، وَيَرْجِعُونَ إِلَى اللَّهِ تَائِبِينَ، فَإِذَا تَابُوا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَحِمَهُمْ.
قَالَ تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ﴾ أَيْ: فَلَمَّا أَبَى الْفَاعِلُونَ الْمُنْكَرَ قَبُولَ النَّصِيحَةِ، ﴿أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أَيْ: ارْتَكَبُوا الْمَعْصِيَةَ ﴿بِعَذَابٍ بَئِيسٍ﴾ فَنَصَّ عَلَى نَجَاةِ النَّاهِينَ وَهَلَاكِ الظَّالِمِينَ، وَسَكَتَ عَنِ السَّاكِتِينَ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، فَهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ مَدْحًا فَيُمْدَحُوا، وَلَا ارْتَكَبُوا عَظِيمًا فَيُذَمُّوا، وَمَعَ هَذَا فَقَدَ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِيهِمْ: هَلْ كَانُوا مِنَ الْهَالِكِينَ أَوْ مِنَ النَّاجِينَ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا﴾ [قَالَ:] (٣) هِيَ قَرْيَةٌ عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ بَيْنَ مِصْرَ وَالْمَدِينَةِ، يُقَالُ لَهَا: "أَيْلَةُ"، فَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْحِيتَانَ يَوْمَ سَبْتِهِمْ، وَكَانَتِ الْحِيتَانُ تَأْتِيهِمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا فِي سَاحِلِ الْبَحْرِ، فَإِذَا مَضَى يَوْمُ السَّبْتِ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهَا. فَمَضَى عَلَى ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ إِنْ طَائِفَةً مِنْهُمْ أَخَذُوا الْحِيتَانَ يَوْمَ سَبْتِهِمْ، فَنَهَتْهُمْ طَائِفَةٌ وَقَالُوا: تَأْخُذُونَهَا وَقَدْ حَرَّمَهَا اللَّهُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ سَبْتِكُمْ؟ فَلَمْ يَزْدَادُوا إِلَّا غَيًّا وَعُتُوًّا، وَجَعَلَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى تَنْهَاهُمْ، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ النُّهَاةِ: تَعْلَمُونَ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ قَدْ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ، ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ [أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا] ﴾ (٤) وَكَانُوا أَشَدَّ غَضَبًا لِلَّهِ مِنَ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى؟ فَقَالُوا: ﴿مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ وَكُلٌّ قَدْ كَانُوا يَنْهَوْنَ، فَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمْ غَضَبُ اللَّهِ نَجَتِ الطَّائِفَتَانِ اللَّتَانِ قَالُوا: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ﴾ وَالَّذِينَ قَالُوا: ﴿مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ﴾ وَأَهْلَكَ اللَّهُ أَهْلَ مَعْصِيَتِهِ الَّذِينَ أَخَذُوا الْحِيتَانَ، فَجَعَلَهُمْ قِرَدَةً.
وَرَوَى الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَرِيبًا مِنْ هَذَا.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عباس: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا﴾

(١) في ك، م، أ: "ففرقة".
(٢) زيادة من ك، م، أ.
(٣) زيادة من أ.
(٤) زيادة من أ.


الصفحة التالية
Icon