قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ﴾ يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ فِي صَنِيعِهِمْ هَذَا، مَعَ مَا أَخَذَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمِيثَاقِ لَيُبَيِّنُنَّ الْحَقَّ لِلنَّاسِ، وَلَا يَكْتُمُونَهُ كَقَوْلِهِ: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ١٨٧]
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ﴾ قَالَ: فِيمَا يُوجِبُونَ عَلَى اللَّهِ مِنْ غُفْرَانِ ذُنُوبِهِمُ الَّتِي لَا يَزَالُونَ يَعُودُونَ فِيهَا، وَلَا يَتُوبُونَ مِنْهَا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ يُرَغِّبُهُمْ تَعَالَى فِي جَزِيلِ ثَوَابِهِ، وَيُحَذِّرُهُمْ مِنْ وَبِيلِ عِقَابِهِ، أَيْ: وَثَوَابِي وَمَا عِنْدِي خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى الْمَحَارِمَ، وَتَرَكَ هَوَى نَفْسِهِ، وَأَقْبَلَ عَلَى طَاعَةِ رَبِّهِ.
﴿أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ يَقُولُ: أَفَلَيِسَ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اعْتَاضُوا بعَرَض الدُّنْيَا عَمَّا عِنْدِي عَقْلٌ يَرْدَعُهُمْ عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ السَّفَهِ وَالتَّبْذِيرِ؟ ثُمَّ أَثْنَى تَعَالَى عَلَى مَنْ تَمَسَّكَ بِكِتَابِهِ الَّذِي يَقُودُهُ إِلَى اتِّبَاعِ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِيهِ، فَقَالَ تَعَالَى ﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ﴾ أَيْ: اعْتَصَمُوا بِهِ وَاقْتَدَوْا بِأَوَامِرِهِ، وَتَرَكُوا زَوَاجِرَهُ ﴿وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ﴾
﴿وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١) ﴾
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عباس قوله: ﴿وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ﴾ يَقُولُ: رَفَعْنَاهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ﴾ [النِّسَاءِ: ١٥٤]
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَفَعَتْهُ الْمَلَائِكَةُ فَوْقَ رُءُوسِهِمْ.
وَقَالَ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: ثُمَّ سَارَ بِهِمْ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مُتَوَجِّهًا نَحْوَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، وَأَخَذَ الْأَلْوَاحَ بَعْدَ مَا سَكَتَ عَنْهُ الْغَضَبُ، فَأَمَرَهُمْ بِالَّذِي أَمْرَهُ (١) اللَّهُ تَعَالَى [بِهِ] (٢) -أَنْ يُبَلِّغَهُمْ مِنَ الْوَظَائِفِ، فَثَقُلَتْ عَلَيْهِمْ، وَأَبَوْا أَنْ يَقْرَبُوهَا حَتَّى يَنْتِقَ (٣) اللَّهُ الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ، قَالَ: رَفَعَتْهُ الْمَلَائِكَةُ فَوْقَ رُءُوسِهِمْ. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِطُولِهِ (٤)
وَقَالَ سُنَيْدُ بْنُ دَاوُدَ فِي تَفْسِيرِهِ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: هَذَا كِتَابٌ، أَتَقْبَلُونَهُ بِمَا فِيهِ، فَإِنَّ فِيهِ بَيَانَ مَا أُحِلَّ لَكُمْ وَمَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ، وَمَا أَمَرَكُمْ وَمَا نَهَاكُمْ؟ قَالُوا: انْشُرْ عَلَيْنَا مَا فِيهَا، فَإِنْ كَانَتْ فَرَائِضُهَا يَسِيرَةً، وَحُدُودُهَا خَفِيفَةً قَبِلْنَاهَا. قَالَ: اقْبَلُوهَا بِمَا فِيهَا. قَالُوا: لَا حَتَّى نَعْلَمَ مَا فِيهَا، كَيْفَ حُدُودُهَا وَفَرَائِضُهَا؟ فَرَاجَعُوا مُوسَى مِرَارًا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْجَبَلِ فَانْقَلَعَ فَارْتَفَعَ فِي السَّمَاءِ، حَتَّى إِذَا كَانَ بَيْنَ رُءُوسِهِمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ قَالَ لَهُمْ مُوسَى: أَلَا تَرَوْنَ مَا يَقُولُ رَبِّي،

(١) في م: "أمر".
(٢) زيادة من أ.
(٣) في د، ك، م: "نتق".
(٤) سنن النسائي الكبرى برقم (١١٣٢٦) وهو حديث الفتون وسيأتي إن شاء الله في سورة طه.


الصفحة التالية
Icon