﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا﴾ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبُونَ بِآيَاتِنَا ﴿مَا بِصَاحِبِهِمْ﴾ يَعْنِي مُحَمَّدًا -صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ (١) ﴿مِنْ جِنَّةٍ﴾ أَيْ: لَيْسَ بِهِ جُنُونٌ، بَلْ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًا دَعَا إِلَى حَقٍّ، ﴿إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ أَيْ: ظَاهِرٌ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ وَلُبٌّ يَعْقِلُ بِهِ وَيَعِي بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ﴾ [التَّكْوِيرِ: ٢٢]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ [سَبَأٍ: ٤٦] يَقُولُ إِنَّمَا أَطْلُبُ مِنْكُمْ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ قِيَامًا خَالِصًا لِلَّهِ، لَيْسَ فِيهِ تَعَصُّبٌ وَلَا عِنَادٌ، ﴿مَثْنَى وَفُرَادَى﴾ أَيْ: مُجْتَمِعِينَ وَمُتَفَرِّقِينَ، ﴿ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا﴾ فِي هَذَا الَّذِي جَاءَكُمْ بِالرِّسَالَةِ مِنَ اللَّهِ: أَبِهِ جُنُونٌ أَمْ لَا؟ فَإِنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ، بَانَ لَكُمْ وَظَهَرَ أَنَّهُ رَسُولُ [اللَّهِ] (٢) حَقًّا وَصِدْقًا.
وَقَالَ قَتَادَةُ بْنُ دِعَامَةَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَلَى الصَّفَا، فَدَعَا قُرَيْشًا فَجَعَلَ يُفَخِّذهم فَخِذًا فَخِذًا: "يَا بَنِي فُلَانٍ، يَا بَنِي فُلَانٍ"، فَحَذَّرَهُمْ بَأْسَ اللَّهِ وَوَقَائِعَ اللَّهِ، فَقَالَ قَائِلُهُمْ: إِنَّ صَاحِبَكُمْ هَذَا لَمَجْنُونٍ. بَاتَ يُصَوِّتُ إِلَى الصَّبَاحِ -أَوْ: حَتَّى أَصْبَحَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ (٣)
﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُوا﴾ -هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبُونَ بِآيَاتِنَا -فِي مُلْكِ اللَّهِ وَسُلْطَانِهِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَفِيمَا خَلَقَ [اللَّهُ] (٤) مِنْ شَيْءٍ فِيهِمَا، فَيَتَدَبَّرُوا ذَلِكَ وَيَعْتَبِرُوا بِهِ، وَيَعْلَمُوا أَنَّ ذَلِكَ لِمَنْ لَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا شَبِيهَ، ومِنْ فِعْل مَنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ (٥) الْعِبَادَةُ. وَالدِّينُ الْخَالِصُ إِلَّا لَهُ. فَيُؤْمِنُوا بِهِ، وَيُصَدِّقُوا رَسُولَهُ، وَيُنِيبُوا إِلَى طَاعَتِهِ، وَيَخْلَعُوا الْأَنْدَادَ وَالْأَوْثَانَ، وَيَحْذَرُوا أَنْ تَكُونَ آجَالُهُمْ قَدِ اقْتَرَبَتْ، فَيَهْلَكُوا عَلَى كُفْرِهِمْ، وَيَصِيرُوا إِلَى عَذَابِ اللَّهِ وَأَلِيمِ عِقَابِهِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾ ؟ يَقُولُ: فَبِأَيِّ تَخْوِيفٍ وَتَحْذِيرٍ وَتَرْهِيبٍ -بَعْدَ تَحْذِيرِ مُحَمَّدٍ وَتَرْهِيبِهِ، الَّذِي أَتَاهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فِي آيِ كِتَابِهِ -يُصَدِّقُونَ، إِنْ لَمْ يُصَدِّقُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ؟!.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ حَسَنِ بْنِ مُوسَى وَعَفَّانَ (٦) بْنِ مُسْلِمٍ وَعَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ بن جُدْعَان، عَنْ أَبِي الصَّلْتِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رَأَيْتُ لَيْلَةَ أَسْرِيَ بِي، لَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَنَظَرْتُ فَوْقِي، فَإِذَا أَنَا بِرَعْدٍ وَبَرْقٍ وَصَوَاعِقَ"، قَالَ: "وَأَتَيْتُ عَلَى قَوْمٍ بُطُونُهُمْ كَالْبُيُوتِ فِيهَا الْحَيَّاتُ تُرَى مِنْ خَارِجِ بُطُونِهِمْ، قلت: من

(١) في أ: "صلى الله عليه وسلم"
(٢) زيادة من د، ك، م، أ.
(٣) رواه الطبري في تفسيره (١٣/٢٨٩).
(٤) زيادة من م.
(٥) في ك، أ: "يكون".
(٦) في أ: "عثمان".


الصفحة التالية
Icon