كَأَنَّكَ صَدِيقٌ لَهُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا سَأَلَ النَّاسُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّاعَةِ، سَأَلُوهُ سُؤَالَ قَوْمٍ كَأَنَّهُمْ يُرُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا حَفِيٌّ بِهِمْ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَهُ، اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِهَا، فَلَمْ يُطْلِعِ اللَّهُ عَلَيْهَا مَلَكًا مُقَرَّبًا وَلَا رَسُولًا.
وَقَالَ قَتَادَةُ: قَالَتْ قُرَيْشٌ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ قَرَابَةً، فَأَسِرَّ إِلَيْنَا مَتَى السَّاعَةُ. فَقَالَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا﴾
وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَأَبِي مَالِكٍ، والسُّدِّي، وَهَذَا قَوْلٌ. وَالصَّحِيحُ عَنْ مُجَاهِدٍ -مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي نَجِيح وَغَيْرِهِ -: ﴿يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا﴾ قَالَ: استَحْفَيت عَنْهَا السُّؤَالَ، حَتَّى عَلِمْتَ وَقْتَهَا.
وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا﴾ يَقُولُ: كَأَنَّكَ عَالِمٌ بِهَا، لَسْتَ تَعْلَمُهَا، ﴿قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ﴾
وَقَالَ مَعْمَرٌ، عَنْ بَعْضِهِمْ: ﴿كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا﴾ كَأَنَّكَ عَالِمٌ بِهَا.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: ﴿كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا﴾ كَأَنَّكَ عَالِمٌ بِهَا، وَقَدْ أَخْفَى اللَّهُ عَلِمَهَا عَلَى خَلْقِهِ، وَقَرَأَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ الْآيَةَ [لُقْمَانَ: ٣٤].
وَلَهَذَا الْقَوْلُ أَرْجَحُ فِي الْمَعْنَى مِنَ الْأَوَّلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾
وَلِهَذَا لَمَّا جَاءَ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي صُورَةِ أَعْرَابِيٍّ، يُعَلِّمُ النَّاسَ أَمْرَ دِينِهِمْ، فَجَلَسَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْلِسَ السَّائِلِ الْمُسْتَرْشِدِ، وَسَأَلَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ عَنِ الْإِيمَانِ، ثُمَّ عَنِ الْإِحْسَانِ، ثُمَّ قَالَ: فَمَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ" أَيْ: لَسْتُ أَعْلَمَ بِهَا مِنْكَ وَلَا أَحَدَ أَعْلَمُ بِهَا مِنْ أَحَدٍ، ثُمَّ قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ الْآيَةَ (١)
وَفِي رِوَايَةٍ: فَسَأَلَهُ عَنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، ثُمَّ قَالَ: "فِي خَمْسٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ". وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ، وَفِي هَذَا كُلِّهِ يَقُولُ لَهُ بَعْدَ كُلِّ جَوَابٍ: "صَدَقْتَ"؛ وَلِهَذَا عَجِبَ الصَّحَابَةُ مِنْ هَذَا السَّائِلِ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ، ثُمَّ لَمَّا انْصَرَفَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ (٢) دِينَكُمْ" (٣)
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: "وَمَا أَتَانِي فِي صُورَةٍ إِلَّا عَرَفْتُهُ فِيهَا، إِلَّا صُورَتَهُ هَذِهِ".
وَقَدْ ذَكَرْتُ هَذَا الْحَدِيثَ بِطُرُقِهِ وَأَلْفَاظِهِ مِنَ الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ وَالْمَسَانِيدِ، فِي أَوَّلِ شَرْحٍ صَحِيحٍ الْبُخَارِيِّ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ (٤)
وَلَمَّا سَأَلَهُ ذَلِكَ الْأَعْرَابِيُّ وَنَادَاهُ بِصَوْتٍ جَهْوَرِيٍّ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هاء (٥) -

(١) رواه البخاري في صحيحه برقم (٥٠) ومسلم في صحيحه برقم (٩).
(٢) في م، أ: "يعلمكم أمر".
(٣) رواه البخاري في صحيحه برقم (٥٠) ومسلم في صحيحه برقم (٩).
(٤) وانظر هذا المطلب في: شرح الحافظ ابن حجر "فتح الباري" (١/١١٤).
(٥) في أ: "هاؤم".


الصفحة التالية
Icon