وَجَوَّزَ غَسْلَهُمَا فَقَدْ أَخْطَأَ أَيْضًا، وَمَنْ نَقَلَ عَنْ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ جَرِيرٍ أَنَّهُ أَوْجَبَ غَسْلَهُمَا لِلْأَحَادِيثِ، وَأَوْجَبَ مَسْحَهُمَا لِلْآيَةِ، فَلَمْ يُحَقِّقْ مَذْهَبَهُ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ كَلَامَهُ فِي تَفْسِيرِهِ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ يَجِبُ دَلْك الرِّجْلَيْنِ مِنْ دُونِ سَائِرِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّهُمَا يَلِيَانِ الْأَرْضَ وَالطِّينَ وَغَيْرَ ذَلِكَ، فَأَوْجَبَ (١) دَلْكَهما لِيَذْهَبَ مَا عَلَيْهِمَا، وَلَكِنَّهُ عَبَّر عَنِ الدَّلْكِ بِالْمَسْحِ، فَاعْتَقَدَ مَنْ لَمْ يَتَأَمَّلْ كَلَامَهُ أَنَّهُ أَرَادَ وُجُوبَ الْجَمْعِ بَيْنَ (٢) غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَمَسْحِهِمَا، فَحَكَاهُ مَنْ حَكَاهُ كَذَلِكَ؛ وَلِهَذَا يَسْتَشْكِلُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ مَعْذُورٌ (٣) فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْمَسْحِ وَالْغَسْلِ، سَوَاءٌ تَقَدَّمَهُ أَوْ تَأَخَّرَ عَلَيْهِ؛ لِانْدِرَاجِهِ فِيهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الرجلُ مَا ذكرتهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ تَأَمَّلْتُ كَلَامَهُ أَيْضًا فَإِذَا هُوَ يُحَاوِلُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَأَرْجُلَكُمْ﴾ خَفْضًا عَلَى الْمَسْحِ وَهُوَ الدَّلْكُ (٤) وَنَصْبًا عَلَى الْغَسْلِ، فَأَوْجَبَهُمَا أَخْذًا بِالْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ وَهَذِهِ.
ذِكْرُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ:
قَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَمِيرَيِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ، وَالْمِقْدَادِ بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ؛ أن رسول الله ﷺ غَسَلَ الرِّجْلَيْنِ (٥) فِي وُضُوئِهِ، إِمَّا مَرَّةً، وَإِمَّا مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا، عَلَى اخْتِلَافِ رِوَايَاتِهِمْ.
وَفِي حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْب، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "هَذَا وُضُوء لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إِلَّا بِهِ ".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عَوَانة، عَنْ أَبِي بِشْر، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَك، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: تَخَلَّف عَنَّا رسول الله ﷺ في سَفْرَةٍ سَافَرْنَاهَا، فأدرَكَنا وَقَدْ أرْهَقَتْنَا الصلاةُ، صلاةُ الْعَصْرِ وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ، فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: "أسبِغوا الْوُضُوءَ وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ". (٦)
وَكَذَلِكَ هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (٧) وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ". (٨)
وَرَوَى اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ حَيْوة بْنِ شُرَيْح، عَنْ عُقْبة بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ جُزْءٍ (٩) أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: "وَيْلٌ للأعْقَاب وبُطون الْأَقْدَامِ مِنَ النَّارِ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَالْحَاكِمُ (١٠) وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حدثنا شعبة، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ
(٢) في أ: "من".
(٣) في أ: "مقدور".
(٤) في أ: "كذلك".
(٥) في ر: "الوجه".
(٦) صحيح البخاري برقم (٦٠) وصحيح مسلم برقم (٢٤١).
(٧) صحيح البخاري رقم (١٦٥) وصحيح مسلم برقم (٢٤٢).
(٨) صحيح مسلم برقم (٢٤٠).
(٩) في أ: "صرد".
(١٠) السنن الكبرى (١/٧٠) والمستدرك (١/١٦٢) ورواه ابن خزيمة في صحيحه برقم (١٦٣) من طريق الليث به.