وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} وَهَذِهِ هِيَ الْبَيْعَةُ الَّتِي كَانُوا يُبَايِعُونَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا عِنْدَ إِسْلَامِهِمْ، كَمَا قَالُوا: "بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَلَّا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ"، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الْحَدِيدِ: ٨] وَقِيلَ: هَذَا تِذْكَارٌ لِلْيَهُودِ بِمَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَوَاثِيقِ وَالْعُهُودِ فِي مُتَابَعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالِانْقِيَادِ لِشَرْعِهِ، رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: هُوَ تِذْكَارٌ بِمَا أَخَذَ تَعَالَى مِنَ الْعَهْدِ عَلَى ذُرِّيَّةِ آدَمَ حِينَ اسْتَخْرَجَهُمْ مِنْ صُلْبِهِ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا﴾ [الْأَعْرَافِ: ١٧٢] قَالَهُ مُجَاهِدٌ، ومُقَاتِل بْنُ حَيَّان. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، والسُّدِّي. وَاخْتَارَهُ (١) ابْنُ جَرِيرٍ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ تَأْكِيدٌ وَتَحْرِيضٌ عَلَى مُوَاظَبَةِ التَّقْوَى فِي كُلِّ حَالٍ.
ثُمَّ أَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا يَتَخَالَجُ فِي الضَّمَائِرِ وَالسَّرَائِرِ مِنَ الْأَسْرَارِ وَالْخَوَاطِرِ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾
وَقَوْلُهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ﴾ أَيْ: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْحَقِّ لِلَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، لَا لِأَجْلِ النَّاسِ وَالسُّمْعَةِ، وَكُونُوا ﴿شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ﴾ أَيْ: بِالْعَدْلِ لَا بِالْجَوْرِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّهُ قَالَ: نَحَلَنِي أَبِي نَحْلا فَقَالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهد رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَجَاءَهُ لِيُشْهِدَهُ عَلَى صَدَقَتِي فَقَالَ: "أُكَلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَ مِثْلَهُ؟ " قَالَ: لَا. قَالَ: "اتَّقُوا اللَّهَ، وَاعْدِلُوا فِي (٢) أَوْلَادِكُمْ". وَقَالَ: "إِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْر". قَالَ: فَرَجَعَ أَبِي فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ. (٣)
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا﴾ أَيْ: لَا يَحْمِلْنَكُمْ بُغْض قَوْمٍ عَلَى تَرْكِ الْعَدْلِ فِيهِمْ، بَلِ اسْتَعْمِلُوا الْعَدْلَ فِي كُلِّ أَحَدٍ، صَدِيقًا كَانَ أَوْ عَدُوًّا؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ أَيْ: عَدْلُكم أَقْرَبُ إِلَى التَّقْوَى مِنْ تَرْكِهِ. وَدَلَّ الْفِعْلُ عَلَى الْمَصْدَرِ الَّذِي عَادَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ، كَمَا فِي نَظَائِرِهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ﴾ [النُّورِ: ٢٨]
وَقَوْلُهُ: ﴿هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ مِنْ بَابِ اسْتِعْمَالِ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي لَيْسَ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ مِنْهُ شَيْءٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ [تَعَالَى] (٤) ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا﴾ [الْفُرْقَانِ: ٢٤] وَكَقَوْلِ (٥) بَعْضِ الصَّحَابِيَّاتِ لِعُمَرَ: أَنْتَ أفَظُّ وَأَغْلَظُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (٦)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ أَيْ: وَسَيَجْزِيكُمْ عَلَى مَا عَلِمَ مِنْ أَفْعَالِكُمُ الَّتِي عَمِلْتُمُوهَا، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ﴾ أَيْ: لِذُنُوبِهِمْ ﴿وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ وَهُوَ: الْجَنَّةُ الَّتِي هِيَ مِنْ رَحْمَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ، لَا يَنَالُونَهَا بِأَعْمَالِهِمْ، بَلْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ، وَإِنْ كَانَ سَبَبُ وُصُولِ الرَّحْمَةِ إِلَيْهِمْ أعمالهم، وهو تعالى

(١) في ر، أ: "واختيار".
(٢) في أ: "بينكم".
(٣) صحيح البخاري برقم (٢٥٨٦) وصحيح مسلم برقم (١٦٢٣).
(٤) زيادة من أ.
(٥) في ر: "ولقول".
(٦) صحيح البخاري برقم (٣٢٩٤) وصحيح مسلم برقم (١٣٩٦)


الصفحة التالية
Icon