بالهَدْي فناحِرُه عِنْدَ الْبَيْتِ". فَقَالَ لَهُ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ: أَمَا (١) وَاللَّهِ لَا نَكُونُ كَالْمَلَأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ قَالُوا لِنَبِيِّهِمْ: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ وَلَكِنْ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتَلَا إِنَّا مَعَكُمْ مُقَاتِلُونَ. فَلَمَّا سَمِعَهَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَتَابَعُوا (٢) عَلَى ذَلِكَ. (٣)
وَهَذَا. إِنْ كَانَ مَحْفُوظًا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَرَّرَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ يَوْمَئِذٍ كَمَا قَالَهُ يَوْمَ بَدْر.
وَقَوْلُهُ: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ يَعْنِي: لَمَّا نَكَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَنِ الْقِتَالِ غَضِبَ عَلَيْهِمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَالَ دَاعِيًا عَلَيْهِمْ: ﴿رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي﴾ أَيْ: لَيْسَ أَحَدٌ يُطِيعُنِي مِنْهُمْ فَيَمْتَثِلُ أَمْرَ اللَّهِ، وَيُجِيبُ إِلَى مَا دعوتَ إِلَيْهِ إِلَّا أَنَا وَأَخِي هَارُونُ، ﴿فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ قَالَ العَوْفِي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ. وَكَذَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ: اقْضِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، وَافْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، وَقَالَ غَيْرُهُ: افْرُقِ: افْصِلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ (٤)
يَا رَبِّ فَافْرُقْ بَيْنَه وبَيْني... أَشَدَّ مَا فَرقْت بَيْن اثْنَيْنِ...
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ [قَالَ] (٥) فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ [فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ] (٦) ﴾ لَمَّا دَعَا عَلَيْهِمْ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، حِينَ نكَلُوا عَنِ الْجِهَادِ حَكَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِتَحْرِيمِ دُخُولِهَا قَدْرًا مُدَّةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَوَقَعُوا فِي التِّيهِ يَسِيرُونَ دَائِمًا لَا يَهْتَدُونَ لِلْخُرُوجِ مِنْهُ، وَفِيهِ كَانَتْ أُمُورٌ عَجِيبَةٌ، وَخَوَارِقُ كَثِيرَةٌ، مِنْ تَظْلِيلِهِمْ بالغَمام وَإِنْزَالِ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى عَلَيْهِمْ، وَمِنْ إِخْرَاجِ الْمَاءِ الْجَارِي مِنْ صَخْرَةٍ صَمَّاءَ تُحْمَلُ (٧) مَعَهُمْ عَلَى دَابَّةٍ، فَإِذَا ضَرَبَهَا مُوسَى بِعَصَاهُ انْفَجَرَتْ مِنْ ذَلِكَ الْحَجَرِ اثْنَتَا عَشْرَةَ (٨) عَيْنًا تَجْرِي لِكُلِّ شِعْبٍ عَيْنٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي أَيَّدَ اللَّهُ بِهَا مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ. وَهُنَاكَ أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ، وَشُرِعَتْ لَهُمُ الْأَحْكَامُ، وَعُمِلَتْ قُبَّةُ الْعَهْدِ، وَيُقَالُ لَهَا: قُبَّةُ الزَّمَانِ.
قَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ أَصْبَغَ بْنِ زَيْدٍ (٩) عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿فَإِنَّهَا (١٠) مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ﴾ الْآيَةَ. قَالَ: فَتَاهُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، يُصْبِحُونَ كُلَّ يَوْمٍ يَسِيرُونَ لَيْسَ لَهُمْ قَرَارٌ، ثُمَّ ظَلَّلَ عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ فِي التِّيهِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى وَهَذَا قِطْعَةٌ مِنْ حَدِيثِ "الْفُتُونِ"، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاةُ هَارُونَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ بَعْدَهُ بِمُدَّةِ ثَلَاثَةِ سِنِينَ مَاتَ مُوسَى الْكِلِيمُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَقَامَ اللَّهُ فِيهِمْ "يُوشَعَ بْنَ نُونٍ" عَلَيْهِ السَّلَامُ، نَبِيًّا خَلِيفَةً عَنْ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، وَمَاتَ أَكْثَرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ هُنَاكَ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ سِوَى "يُوشِعَ" وَ "كَالِبَ"، وَمِنْ هَاهُنَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ: ﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ﴾ هَذَا وَقْفٌ تَامٌّ، وَقَوْلُهُ: ﴿أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾ مَنْصُوبٌ بقوله: ﴿يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ﴾ فلما انقضت
(٢) في ر، أ: "تبايعوا".
(٣) تفسير الطبري (١٠/١٨٦).
(٤) يقول الأستاذ محمود شاكر حفظه الله: "لعله حبينة بن طريف العكلي". انظر: حاشية تفسير الطبري (١٠/١٨٨).
(٥) زيادة من أ.
(٦) زيادة من ر، وفي هـ: "الآية".
(٧) في ر: "تحتمل".
(٨) في ر، أ: "اثنا عشر".
(٩) في ر، أ: "يزيد".
(١٠) في ر، هـ: "إنها"، والصواب ما أثبتناه.