وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حبَّان فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، مِنْ طُرُقٍ أُخَرَ، عَنْ عَوْفٍ الْأَعْرَابِيِّ، بِهِ (١) وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ.
وَأَوَّلُ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهَمَّ بِالْحَجِّ، ثُمَّ ذُكر أَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَحْضُرُونَ عَامَهُمْ هَذَا الْمَوْسِمَ عَلَى عَادَتِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّهُمْ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً فَكَرِهَ مُخَالَطَتَهُمْ، فَبَعَثَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَمِيرًا عَلَى الْحَجِّ هَذِهِ السَّنَةَ، لِيُقِيمَ لِلنَّاسِ مَنَاسِكَهُمْ، وَيُعْلِمَ الْمُشْرِكِينَ أَلَّا يَحُجُّوا بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا، وَأَنْ يُنَادِيَ فِي النَّاسِ بِبَرَاءَةَ، فَلَمَّا قَفَلَ أَتْبَعُهُ بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لِيَكُونَ مُبَلِّغًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِكَوْنِهِ عَصَبَة لَهُ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
فَقَوْلُهُ: ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ أَيْ: هَذِهِ بَرَاءَةٌ، أَيْ: تَبَرُّؤٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴿إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾
اختلف المفسرون ها هنا اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَقَالَ قَائِلُونَ: هَذِهِ الْآيَةُ لِذَوِي الْعُهُودِ الْمُطْلَقَةِ غَيْرِ الْمُؤَقَّتَةِ، أَوْ مَنْ لَهُ عَهْدٌ دُونَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَيُكْمَلُ لَهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ مؤقَّت فَأَجَلُهُ إِلَى مُدَّتِهِ، مَهْمَا كَانَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ [التَّوْبَةِ: ٤] وَلِمَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ: "وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ فَعَهْدُهُ إِلَى مُدَّتِهِ". وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ وَأَقْوَاهَا، وَقَدِ اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، ورُوي عَنِ الْكَلْبِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظِيّ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾ قَالَ: حَدَّ اللَّهُ لِلَّذِينِ عَاهَدُوا رَسُولَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، يَسِيحُونَ فِي الْأَرْضِ حَيْثُمَا شَاءُوا، وَأَجَّلَ أَجَلَ مَنْ لَيْسَ لَهُ عَهْدٌ، انسلاخَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، [مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ إِلَى انْسِلَاخِ الْمُحَرَّمِ، فَذَلِكَ خَمْسُونَ لَيْلَةً، فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ] (٢) أَمَرَهُ بِأَنْ يَضَعَ السَّيْفَ فَيمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ.
وَكَذَا رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ [الضَّحَّاكُ] (٣) بَعْدَ قَوْلِهِ: فَذَلِكَ خَمْسُونَ لَيْلَةً: فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ إِذَا انْسَلَخَ الْمُحَرَّمُ أَنْ يَضَعَ السَّيْفَ فِيمَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ عَهْدٌ، يَقْتُلُهُمْ حَتَّى يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ. وَأَمَرَ مِمَّنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ إِذَا انْسَلَخَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ إِلَى عَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ، أَنْ يَضَعَ فِيهِمُ السَّيْفَ (٤) حَتَّى يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ.
وَقَالَ أَبُو مَعْشَرٍ الْمَدَنِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ وَغَيْرُهُ قَالُوا: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ أَمِيرًا عَلَى الْمَوْسِمِ سَنَةَ تِسْعٍ، وَبَعَثَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ بِثَلَاثِينَ آيَةً أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً مِنْ "بَرَاءَةَ" فقرأها
(٢) زيادة من ت، م.
(٣) زيادة من ت، م.
(٤) من ت: "السيف أيضا".