وَهَكَذَا رُوي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وعِكْرِمة، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَير، وقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ، وَغَيْرِهِمْ.
﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ﴾ أَيْ: بِمَا يُصْلِحُكُمْ، ﴿حَكِيم﴾ أَيْ: فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ الْكَامِلُ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، الْعَادِلُ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى؛ وَلِهَذَا عَوَّضَهُمْ عَنْ تِلْكَ الْمَكَاسِبِ بِأَمْوَالِ الْجِزْيَةِ الَّتِي يَأْخُذُونَهَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَقَالَ: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ فَهُمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَمَّا كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (١) لَمْ يَبْقَ لَهُمْ إِيمَانٌ صَحِيحٌ بِأَحَدٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَلَا بِمَا جَاءُوا بِهِ، وَإِنَّمَا يَتَّبِعُونَ آرَاءَهُمْ وَأَهْوَاءَهُمْ وَآبَاءَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ، لَا لِأَنَّهُ شَرْعُ اللَّهِ وَدِينُهُ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِمَا بِأَيْدِيهِمْ إِيمَانًا صَحِيحًا لَقَادَهُمْ ذَلِكَ إِلَى الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ [الْأَقْدَمِينَ] (٢) بَشَّرُوا بِهِ، وَأَمَرُوا بِاتِّبَاعِهِ، فَلَمَّا جَاءَ وَكَفَرُوا (٣) بِهِ، وَهُوَ أَشْرَفُ الرُّسُلِ، عُلِم أَنَّهُمْ لَيْسُوا مُتَمَسِّكِينَ بِشَرْعِ الْأَنْبِيَاءِ الْأَقْدَمِينَ لِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، بَلْ لِحُظُوظِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ، فَلِهَذَا لَا يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ بِبَقِيَّةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ كَفَرُوا بِسَيِّدِهِمْ وَأَفْضَلِهِمْ وَخَاتَمِهِمْ وَأَكْمَلِهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ [نَزَلَتْ] (٤) أَوَّلَ الْأَمْرِ بِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ، بَعْدَ مَا تَمَهَّدَتْ أُمُورُ الْمُشْرِكِينَ وَدَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، فَلَمَّا اسْتَقَامَتْ (٥) جَزِيرَةُ الْعَرَبِ أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَكَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ؛ وَلِهَذَا تَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقِتَالِ الرُّومِ وَدَعَا النَّاسَ إِلَى ذَلِكَ، وَأَظْهَرَهُ لَهُمْ، وَبَعَثَ إِلَى أَحْيَاءِ الْعَرَبِ حَوْلَ الْمَدِينَةِ فَنَدَبَهُمْ، فَأَوْعَبوا مَعَهُ، وَاجْتَمَعَ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ (٦) نَحْوٌ [مِنْ] (٧) ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَتَخَلَّفَ بعضُ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهَا مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي عَامِ جَدْب، وَوَقْتِ قَيْظ وَحَرٍّ، وَخَرَجَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، يُرِيدُ الشَّامَ لِقِتَالِ الرُّومِ، فَبَلَغَ تَبُوكَ، فَنَزَلَ بِهَا وَأَقَامَ عَلَى مَائِهَا (٨) قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ يَوْمًا، ثُمَّ اسْتَخَارَ اللَّهَ فِي الرُّجُوعِ، فَرَجَعَ عَامَهُ ذَلِكَ لِضِيقِ الْحَالِ وَضَعْفِ النَّاسِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَقَدِ استدلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَن يَرَى أَنَّهُ لَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ إِلَّا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَوْ مِنْ أَشْبَاهِهِمْ كَالْمَجُوسِ، لِمَا (٩) صَحَّ فِيهِمُ الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ (١٠) وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ -فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ -وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ: بَلْ تُؤْخَذُ مِنْ جَمِيعِ الْأَعَاجِمِ، سَوَاءٌ كَانُوا (١١) مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَلَا تُؤْخَذُ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ: بَلْ يَجُوزُ أَنْ تُضْرَبَ الْجِزْيَةُ عَلَى جَمِيعِ الْكُفَّارِ من كتابيٍّ، ومجوسي، ووثني،
(٢) زيادة من أ.
(٣) في أ: "فلما جاءوا كفروا".
(٤) زيادة من ت، أ.
(٥) في جمع النسخ: "واستقامت"، وصوبناه ليستقيم النص.
(٦) في ك: "القابلة".
(٧) زيادة من ت، ك، أ.
(٨) في د: "وأقام بها قريبا".
(٩) في ت، د، ك: "كما".
(١٠) في هـ: "من هجر"، وفي أ: "من يهود هجر" والمثبت من ت، ك، أ.
(١١) في ك: "سواء أن كانوا".