ثُمَّ يُسَمُّونَ ذَا الْحِجَّةِ ذَا الْقَعْدَةِ، ثُمَّ يُسَمُّونَ الْمُحَرَّمَ ذَا الْحِجَّةِ، فَيَحُجُّونَ فِيهِ، وَاسْمُهُ عِنْدَهُمْ ذُو (١) الْحِجَّةِ، ثُمَّ عَادُوا بِمِثْلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ فَكَانُوا يَحُجُّونَ فِي كُلِّ شَهْرٍ عَامَيْنِ، حَتَّى وَافَقَ حَجَّةَ أَبِي بَكْرٍ الْآخِرُ مِنَ الْعَامَيْنِ فِي الْقَعْدَةِ (٢) ثُمَّ حَجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّتَهُ الَّتِي حَجَّ، فَوَافَقَ ذَا الْحِجَّةِ، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَتِهِ: "إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ".
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُجَاهِدٌ فِيهِ نَظَرٌ أَيْضًا، وَكَيْفَ تَصِحُّ حَجَّةُ أَبِي بَكْرٍ وَقَدْ وَقَعَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَأَنَّى هَذَا؟ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾ الْآيَةَ [التَّوْبَةِ: ٣]، وَإِنَّمَا نُودِيَ بِذَلِكَ فِي حَجَّةِ أَبِي بَكْرٍ، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ فِي ذِي الْحِجَّةِ لَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ﴾ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ فِعْلِهِمُ النَّسِيءَ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ، مِنْ دَوَرَانِ السَّنَةِ عَلَيْهِمْ، وَحَجِّهِمْ فِي كُلِّ شَهْرٍ عَامَيْنِ؛ فَإِنَّ النَّسِيءَ حَاصِلٌ بِدُونِ هَذَا، فَإِنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا يُحِلُّونَ شَهْرَ الْمُحَرَّمِ عَامًا يُحَرِّمُونَ عِوَضَهُ صفرا، وَبَعْدَهُ رَبِيعٌ وَرَبِيعٌ إِلَى آخِرِ [السَّنَةِ وَالسَّنَةُ بِحَالِهَا عَلَى نِظَامِهَا وَعِدَّتِهَا وَأَسْمَاءِ شُهُورِهَا ثُمَّ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ يُحَرِّمُونَ الْمُحَرَّمَ وَيَتْرُكُونَهُ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَبَعْدَهُ صَفَرٌ، وَرَبِيعٌ وَرَبِيعٌ إِلَى آخِرِهَا] (٣) فَيُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا؛ لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ، أَيْ: فِي تَحْرِيمِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مِنَ السَّنَةِ، إِلَّا أَنَّهُمْ تَارَةً يُقَدِّمُونَ تَحْرِيمَ الشَّهْرِ الثَّالِثِ مِنَ الثَّلَاثَةِ الْمُتَوَالِيَةِ وَهُوَ الْمُحَرَّمُ، وَتَارَةً يَنْسَئُونَهُ إِلَى صَفَرٍ، أَيْ: يُؤَخِّرُونَهُ. وَقَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَةٌ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ"، أَيْ: أَنَّ الْأَمْرَ فِي عِدَّةِ (٤) الشُّهُورِ وَتَحْرِيمِ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ مِنْهَا، عَلَى مَا سَبَقَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْعَدَدِ وَالتَّوَالِي، لَا كَمَا يَعْتَمِدُهُ جَهَلَةُ الْعَرَبِ، مِنْ فَصْلِهِمْ تَحْرِيمَ بَعْضِهَا بِالنَّسِيءِ عَنْ بَعْضٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ بِشْرِ بْنِ سَلَمَةَ الطَّبَرَانِيُّ، حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَقَبَةِ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ لَهُ أَهْلٌ (٥) ثُمَّ قَالَ: "وَإِنَّمَا النَّسِيءُ مِنَ الشَّيْطَانِ، زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ، يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا، يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عاما". فكانوا يحرمون المحرم عاما، ويستحلون صفر (٦) وَيَسْتَحِلُّونَ الْمُحَرَّمَ، وَهُوَ النَّسِيءُ (٧)
وَقَدْ تَكَلَّمَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَلَى هَذَا فِي كِتَابِ "السِّيرَةِ" كَلَامًا جَيِّدًا وَمُفِيدًا حَسَنًا، فَقَالَ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ نَسَأَ الشُّهُورَ عَلَى الْعَرَبِ، فَأَحَلَّ مِنْهَا مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَحَرَّمَ مِنْهَا مَا أَحَلَّ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، "القَلمَّس"، وَهُوَ: حُذَيْفَةُ بْنُ عَبْدِ مُدْرِكة فُقَيم (٨) بْنُ عَدِيِّ بْنِ عَامِرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بن

(١) في ك: "ذا".
(٢) في ك، أ: "ذي القعدة".
(٣) زيادة من ت، ك، أ.
(٤) في ت: "هذه".
(٥) في ت، أ: "بما هو أهله".
(٦) في ت، ك، أ: "صفر منه".
(٧) ورواه أبو الشيخ الأصبهاني كما في الدر المنثور (٥/١٨٨).
(٨) في ت، ك، أ: "عبد بن فقيم".


الصفحة التالية
Icon