وَالثَّانِي: رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ والزُّهْرِيِّ أَنَّهُمَا قَالَا أُنْزِلَتْ (١) فِي رَمْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ أُبَي بْنَ خَلَفٍ بِالْحَرْبَةِ وَهُوَ فِي لَأْمَتِهِ، فَخَدَشَهُ فِي تَرْقُوَتِهِ، فَجَعَلَ يَتَدَأْدَأُ عَنْ فَرَسِهِ مِرَارًا، حَتَّى كَانَتْ وَفَاتُهُ [بِهَا] (٢) بَعْدَ أَيَّامٍ، قَاسَى فِيهَا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ، مَوْصُولًا بِعَذَابِ الْبَرْزَخِ، الْمُتَّصِلِ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ (٣)
وَهَذَا الْقَوْلُ عَنْ هَذَيْنَ الْإِمَامَيْنِ غَرِيبٌ أَيْضًا جِدًّا، وَلَعَلَّهُمَا أَرَادَا أَنَّ الْآيَةَ تَتَنَاوَلُهُ بِعُمُومِهَا، لَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ خَاصَّةً كَمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَة بْنِ الزُّبَيْرِ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا﴾ أَيْ: ليُعَرّف الْمُؤْمِنِينَ مِنْ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ، مِنْ إِظْهَارِهِمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ مَعَ كَثْرَةِ عَدُوِّهِمْ، وَقِلَّةِ عَدَدِهِمْ، لِيَعْرِفُوا بِذَلِكَ حَقَّهُ، وَيَشْكُرُوا بِذَلِكَ نِعْمَتَهُ.
وَهَكَذَا فَسَّرَ (٤) ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا. وَفِي الْحَدِيثِ: "وَكُلُّ بَلَاءٍ حَسَنٌ أَبْلَانَا".
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أَيْ: سَمِيعُ الدُّعَاءِ، عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ النَّصْرَ وَالْغَلَبَ.
وَقَوْلُهُ ﴿ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ﴾ هَذِهِ بِشَارَةٌ أُخْرَى مَعَ مَا حَصَلَ مِنَ النَّصْرِ: أَنَّهُ أَعْلَمَهُمْ تَعَالَى بِأَنَّهُ مُضْعِفُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ، مُصَغِّرًا أَمْرَهُمْ، وَأَنَّهُمْ كُلُّ مَا لَهُمْ فِي تَبَارٍ (٥) وَدَمَارٍ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
﴿إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى لِلْكُفَّارِ ﴿إِنْ تَسْتَفْتِحُوا﴾ أَيْ: تَسْتَنْصِرُوا وَتَسْتَقْضُوا اللَّهَ وَتَسْتَحْكِمُوهُ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ أَعْدَائِكُمُ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَدْ جَاءَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ، كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عبد الله بن ثعلبة بن صُغَيْر؛ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ: اللَّهُمَّ أَقْطَعُنَا لِلرَّحِمِ وَآتَانَا بِمَا لَا نَعْرِفُ (٦) فَأَحْنِهِ الْغَدَاةَ -وَكَانَ ذَلِكَ اسْتِفْتَاحًا مِنْهُ -فَنَزَلَتْ: ﴿إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ﴾ إِلَى آخَرِ الْآيَةِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ -يَعْنِي ابْنَ هَارُونَ -أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ: أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ حِينَ الْتَقَى الْقَوْمُ: اللَّهُمَّ، أَقْطَعُنَا لِلرَّحِمِ، وَآتَانَا بِمَا لَا نَعْرِفُ، فَأَحْنِهِ الْغَدَاةَ، فَكَانَ الْمُسْتَفْتِحَ.
وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ حَدِيثِ، صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهِ وكذا رواه الحاكم
(٢) زيادة من أ.
(٣) المستدرك (٢/٣٢٧).
(٤) في د: "فسره".
(٥) في م: "شغال".
(٦) في ك، م: "بما لم يعرف".