وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْأَشْهَرُ وَالْأَلْيَقُ وَالْأَنْسَبُ بِسِيَاقِ الْقِصَّةِ وَمَعَانِي الْكَلَامِ. وَقَدْ حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَانْتَدَبَ لِنَصْرِهِ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ تَيميَّة، رَحِمَهُ اللَّهُ، فَأَفْرَدَهُ بِتَصْنِيفٍ عَلَى حِدَةٍ (١)
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ يُوسُفَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنْ قَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ﴾ فِي زَوْجَتِهِ ﴿بِالْغَيْبِ﴾ الْآيَتَيْنِ أَيْ: إِنَّمَا رَدَدْتُ الرَّسُولَ لِيَعْلَمَ الْمَلِكُ بَرَاءَتِي وَلِيَعْلَمَ الْعَزِيزُ ﴿أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ﴾ فِي زَوْجَتِهِ ﴿بِالْغَيْبِ﴾ ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾ [الْآيَةَ] (٢) وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي لَمَّ يَحْكِ ابْنُ جَرِيرٍ وَلَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ سِوَاهُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا وَكِيع، عَنْ إِسْرَائِيلُ، عَنْ سِمَاك، عَنْ عِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا جَمَعَ الْمَلِكُ النِّسْوَةَ فَسَأَلَهُنَّ: هَلْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ؟ ﴿قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾ قَالَ يُوسُفُ ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ] ﴾ (٣) قَالَ: فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَلَا يَوْمَ هَمَمْتَ بِمَا هَمَمْتَ بِهِ. فَقَالَ: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾ (٤)
وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْر، وَعِكْرِمَةُ، وَابْنُ أَبِي الهُذَيل، وَالضَّحَّاكُ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، والسُّدي. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْوَى وَأُظْهِرُ؛ لِأَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ كُلِّهِ مِنْ كَلَامِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ بِحَضْرَةِ الْمَلِكِ، وَلَمْ يَكُنْ يُوسُفُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عِنْدَهُمْ، بَلْ بَعْدَ ذَلِكَ أَحْضَرَهُ الْمَلِكُ.
﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الْمَلِكِ حِينَ تَحَقَقَ بَرَاءَةَ يُوسُفَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَنَزَاهَةَ عرْضه مِمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ، قَالَ: ﴿ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي﴾ أَيْ: أَجْعَلُهُ مِنْ خَاصَّتِي وَأَهْلِ مَشُورَتِي ﴿فَلَمَّا كَلَّمَهُ﴾ أَيْ: خَاطَبَهُ الْمَلِكُ وَعَرَفَهُ، وَرَأَى فَضْلَهُ وَبَرَاعَتَهُ، وَعَلِمَ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ خَلْق وخُلُق وَكَمَالٍ قَالَ لَهُ الْمَلِكُ: ﴿إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ﴾ أَيْ: إِنَّكَ عِنْدَنَا قَدْ بَقِيتَ ذَا مَكَانَةٍ وَأَمَانَةٍ، فَقَالَ يُوسُفُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ مَدَحَ نَفْسَهُ، وَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ ذَلِكَ إِذَا جُهِل أَمْرُهُ، لِلْحَاجَةِ. وَذَكَرَ أَنَّهُ ﴿حَفِيظٌ﴾ أَيْ: خَازِنٌ أَمِينٌ، ﴿عَلِيمٌ﴾ ذُو عِلْمٍ وبصرَ بِمَا يَتَوَلَّاهُ (٥).
قَالَ شَيْبَةُ بْنُ نَعَامَةَ: حَفِيظٌ لِمَا اسْتَوْدَعَتْنِي، عَلِيمٌ بِسِني الجَدْب. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَسَأَلَ الْعَمَلَ لِعِلْمِهِ بِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ لِلنَّاسِ (٦) وَإِنَّمَا سَأَلَ أَنْ يُجْعَل عَلَى

(١) انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (١٠/٢٩٨).
(٢) زيادة من ت، أ.
(٣) زيادة من ت، أ.
(٤) تفسير الطبري (١٦/١٤٣).
(٥) في ت: "نتولاه".
(٦) في ت: "مصالح الناس".


الصفحة التالية
Icon