وذِكر أَبِي طَالِبٍ فِي هَذَا، غَرِيبٌ جِدًّا، بَلْ مُنْكَرٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ وَاجْتِمَاعَ قُرَيْشٍ عَلَى هَذَا الِائْتِمَارِ وَالْمُشَاوَرَةِ عَلَى الْإِثْبَاتِ أَوِ النَّفْيِ أَوِ الْقَتْلِ، إِنَّمَا كَانَ لَيْلَةَ الْهِجْرَةِ سَوَاءً، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي طَالِبٍ بِنَحْوٍ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ لَمَّا تَمَكَّنُوا مِنْهُ وَاجْتَرَءُوا عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، الَّذِي كَانَ يَحُوطُهُ وَيَنْصُرُهُ وَيَقُومُ بِأَعْبَائِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا: مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَار صَاحِبُ "الْمُغَازِي" عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَحَدَّثَنِي الْكَلْبِيُّ، عَنْ بَاذَانَ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ نَفَرًا مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ أَشْرَافِ كُلِّ قَبِيلَةٍ، اجْتَمَعُوا لِيَدْخُلُوا دَارَ النَّدْوَةِ، فَاعْتَرَضَهُمْ (١) إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ شَيْخٍ جَلِيلٍ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: شَيْخٌ مِنْ نَجْدٍ، سَمِعْتُ أَنَّكُمُ اجْتَمَعْتُمْ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَحْضُرَكُمْ وَلَنْ يُعْدِمَكُمْ رَأْيِي وَنُصْحِي. قَالُوا: أَجَلْ، ادْخُلْ فَدَخَلَ مَعَهُمْ فَقَالَ: انْظُرُوا فِي شَأْنِ هَذَا الرَّجُلِ، وَاللَّهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يُوَاثِبَكُمْ فِي أَمْرِكُمْ بِأَمْرِهِ. قَالَ: فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: احْبِسُوهُ فِي وِثَاقٍ، ثُمَّ تَرَبَّصُوا بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ، حَتَّى يَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الشُّعَرَاءِ: زُهَيْرٌ وَالنَّابِغَةٌ، إِنَّمَا هُوَ كَأَحَدِهِمْ، قَالَ: فَصَرَخَ عَدُوُّ اللَّهِ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ، وَاللَّهِ لَيُخْرِجَنَّهُ رَبُّهُ مِنْ مَحْبِسِهِ (٢) إِلَى أَصْحَابِهِ، فَلَيُوشِكَنَّ أَنْ يَثِبُوا عَلَيْهِ حَتَّى يَأْخُذُوهُ مِنْ أَيْدِيكُمْ، فَيَمْنَعُوهُ مِنْكُمْ، فَمَا آمَنُ عَلَيْكُمْ أَنْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ بِلَادِكُمْ. قَالَ: فَانْظُرُوا فِي غَيْرِ هَذَا.
قَالَ: فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: أَخْرِجُوهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ تَسْتَرِيحُوا مِنْهُ، فَإِنَّهُ إِذَا خَرَجَ لَنْ يَضُرَّكُمْ مَا صَنَعَ وَأَيْنَ وَقَعَ، إِذَا غَابَ عَنْكُمْ أَذَاهُ وَاسْتَرَحْتُمْ، وَكَانَ أَمْرُهُ فِي غَيْرِكُمْ، فَقَالَ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ: وَاللَّهِ مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ، أَلَمْ تَرَوْا حَلَاوَةَ [قَوْلِهِ] (٣) وَطَلَاوَةَ لِسَانِهِ، وَأَخْذَ الْقُلُوبِ مَا تَسْمَعُ (٤) مِنْ حَدِيثِهِ؟ وَاللَّهِ لَئِنْ فَعَلْتُمْ، ثُمَّ اسْتَعْرَضَ الْعَرَبَ، لَيَجْتَمِعَنَّ عَلَيْكُمْ (٥) ثُمَّ لَيَأْتِيَنَّ إِلَيْكُمْ حَتَّى يُخْرِجَكُمْ مِنْ بِلَادِكُمْ وَيَقْتُلَ أَشْرَافَكُمْ. قَالُوا: صَدَقَ وَاللَّهِ، فَانْظُرُوا بَابًا غَيْرَ هَذَا.
قَالَ: فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ، لَعَنَهُ اللَّهُ: وَاللَّهِ لَأُشِيرَنَّ عَلَيْكُمْ بِرَأْيٍ مَا أَرَاكُمْ تَصْرِمُونَهُ (٦) بَعْدُ، مَا أَرَى غَيْرَهُ. قَالُوا: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: نَأْخُذُ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ غُلَامًا شَابًّا وَسِيطًا نَهِدًا، ثُمَّ يُعْطَى كُلُّ غُلَامٍ مِنْهُمْ سَيْفًا صَارِمًا، ثُمَّ يَضْرِبُونَهُ ضَرْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا قَتَلُوهُ تَفَرَّقَ دَمُهُ فِي الْقَبَائِلِ [كُلِّهَا] (٧) فَلَا أَظُنُّ هَذَا الْحَيَّ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ يَقْوَوْنَ عَلَى حَرْبِ قُرَيْشٍ كُلِّهَا. فَإِنَّهُمْ إِذَا رَأَوْا ذَلِكَ قَبِلُوا الْعَقْلَ، وَاسْتَرَحْنَا وَقَطَعْنَا عَنَّا أَذَاهُ.
قَالَ: فَقَالَ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ: هَذَا وَاللَّهِ الرَّأْيُ. الْقَوْلُ مَا قَالَ الْفَتَى لَا رَأْيَ غَيْرَهُ، قَالَ: فَتَفَرَّقُوا عَلَى ذَلِكَ وَهُمْ مُجْمِعُونَ لَهُ (٨)
فَأَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَهُ أَلَّا يَبِيتَ فِي مَضْجَعِهِ الَّذِي كَانَ يَبِيتُ فِيهِ، وَأَخْبَرَهُ بمكر القوم.
(٢) في أ: "من حبسه".
(٣) زيادة من أ.
(٤) في أ: "ما نشبع".
(٥) في د، ك، م: "عليه".
(٦) في أ: "بصرتموه"
(٧) زيادة من د، ك، م، أ.
(٨) زيادة من د، ك، م.