وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ فَيَمِيزَ أَهْلَ السَّعَادَةِ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ (١) وَقَالَ السُّدِّي: يَمِيزُ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ. وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّمْيِيزُ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ﴾ [يُونُسَ: ٢٨]، وَقَالَ تَعَالَى ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ﴾ [الرُّومِ: ١٤]، وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ﴾ [الرُّومِ٤٣]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ﴾ [يس: ٥٩].
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّمْيِيزُ فِي الدُّنْيَا، بِمَا يَظْهَرُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَتَكُونُ "اللَّامُ" مُعَلِّلَةً لِمَا جَعَلَ اللَّهُ لِلْكُفَّارِ مِنْ مَالٍ يُنْفِقُونَ فِي الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، أَيْ: إِنَّمَا أَقْدَرْنَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ؛ ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ أَيْ: مَنْ يُطِيعُهُ بِقِتَالِ أَعْدَائِهِ الْكَافِرِينَ، أَوْ يَعْصِيهِ بِالنُّكُولِ عَنْ ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ﴾ الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ: ١٦٦، ١٦٧]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾ الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ: ١٧٩]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ١٤٢] وَنَظِيرَتُهَا فِي بَرَاءَةَ أَيْضًا.
فَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا: إِنَّمَا ابْتَلَيْنَاكُمْ بِالْكُفَّارِ يُقَاتِلُونَكُمْ، وَأَقْدَرْنَاهُمْ عَلَى إِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ وَبَذْلِهَا فِي ذَلِكَ؛ لِيَتَمَيَّزَ (٢) الْخَبِيثُ مِنَ الطَّيِّبِ، فَيُجْعَلَ الْخَبِيثُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، ﴿فَيَرْكُمَهُ﴾ أَيْ: يَجْمَعَهُ كُلَّهُ، وَهُوَ جَمْعُ الشَّيْءِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي السَّحَابِ: ﴿ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا﴾ [النُّورِ: ٤٣] أَيْ: مُتَرَاكِمًا مُتَرَاكِبًا، ﴿فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ أَيْ: هَؤُلَاءِ هُمُ الْخَاسِرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ (٣٨) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا﴾ أَيْ: عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمُشَاقَّةِ وَالْعِنَادِ وَيَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَالطَّاعَةِ وَالْإِنَابَةِ، يُغْفَرُ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَف، أَيْ: مِنْ كُفْرِهِمْ، وَذُنُوبِهِمْ وَخَطَايَاهُمْ، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي وَائِلٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أحْسَن فِي الْإِسْلَامِ، لَمْ يُؤاخَذ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ فِي الْإِسْلَامِ، أخذ بالأول والآخر" (٣)
(٢) في د، م: "ليميز الله".
(٣) صحيح البخاري برقم (٦٩٢١) وصحيح مسلم برقم (١٢٠).