ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ شِرْكِهِمْ بِهِ غَيْرَهُ، وَعِبَادَتِهِمْ مَعَهُ مَا سِوَاهُ مِنَ الْأَوْثَانِ وَالْأَنْدَادِ، تَعَالَى وَتَقَدَّسَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُكَذِّبُونَ بِالسَّاعَةِ، فَقَالَ: ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾
﴿يُنزلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِ (٢) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿يُنزلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ﴾ أَيِ: الْوَحْيِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا﴾ [الشُّورَى: ٥٢].
وَقَوْلُهُ: ﴿عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ، كَمَا قَالَ: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الْأَنْعَامِ: ١٢٤]، وَقَالَ: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ﴾ [الْحَجِّ: ٧٥]، وَقَالَ: ﴿يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [غَافِرٍ: ١٥، ١٦].
وَقَوْلُهُ: ﴿أَنْ أَنْذِرُوا﴾ أَيْ: لِيُنْذِرُوا ﴿أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا أَنَا﴾ [كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا أَنَا﴾ ] (١) ﴿فَاعْبُدُونِ﴾ [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٥]، وَقَالَ فِي هَذِهِ [الْآيَةِ] (٢) :﴿فَاتَّقُونِ﴾ أَيْ: فَاتَّقُوا عُقُوبَتِي لِمَنْ خَالَفَ أَمْرِي وَعَبَدَ غَيْرِي.
﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤) ﴾
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ خَلْقِهِ الْعَالَمَ الْعُلْوِيَّ وَهُوَ السَّمَاوَاتُ، وَالْعَالَمَ السُّفْلِيَّ وَهُوَ الْأَرْضُ بِمَا حَوَتْ، وَأَنَّ ذَلِكَ مَخْلُوقٌ بِالْحَقِّ لَا لِلْعَبَثِ (٣)، بَلْ ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾ [النَّجْمِ: ٣١].
ثُمَّ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ شِرْكِ مَنْ عَبَدَ مَعَهُ غَيْرَهُ [مِنَ الْأَصْنَامِ الَّتِي لَا تَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ فَكَيْفَ نَاسَبَ أَنْ يُعْبَدَ مَعَهُ غَيْرُهُ] (٤)، وَهُوَ الْمُسْتَقِلُّ بِالْخَلْقِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَلِهَذَا يَسْتَحِقُّ (٥) أَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى خَلْقِ جِنْسِ الْإِنْسَانِ ﴿مِنْ نُطْفَةٍ﴾ أَيْ: ضَعِيفَةٍ مَهِينَةٍ، فَلَمَّا اسْتَقَلَّ ودَرَج إِذَا هُوَ يُخَاصِمُ رَبَّهُ تَعَالَى وَيُكَذِّبُهُ، وَيُحَارِبُ رُسُلَهُ، وَهُوَ إِنَّمَا خُلِقَ لِيَكُونَ عَبْدًا لَا ضدًا، كما قال تعالى:
(٢) زيادة من ت، أ.
(٣) في أ: "لا للعب".
(٤) زيادة من ت، ف.
(٥) في أ: "استحق".