وَقَوْلُهُ: ﴿قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي﴾ أَيْ: لَمَّا بَنَاهُ ذُو الْقَرْنَيْنِ ﴿قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي﴾ أَيْ: بِالنَّاسِ حَيْثُ جَعَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ حَائِلًا يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْعَيْثِ (١) فِي الْأَرْضِ وَالْفَسَادِ. ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي﴾ أَيْ: إِذَا اقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ ﴿جَعَلَهُ دَكَّاءَ﴾ أَيْ: سَاوَاهُ (٢) بِالْأَرْضِ. تَقُولُ الْعَرَبُ: نَاقَةٌ دَكَّاءُ: إِذَا كَانَ ظَهْرُهَا مُسْتَوِيًا لَا سَنَامَ لَهَا. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا﴾ [الْأَعْرَافِ: ١٤٣] أَيْ: مُسَاوِيًا لِلْأَرْضِ (٣).
وَقَالَ عِكْرِمَةُ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ﴾ قَالَ: طَرِيقًا كَمَا كَانَ.
﴿وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا﴾ أَيْ: كَائِنًا لَا مَحَالَةَ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ [يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ] ﴾ (٤) أي: النَّاسَ يَوْمَئِذَ أَيْ: يَوْمَ يُدَكُّ (٥) هَذَا السَّدُّ وَيَخْرُجُ هَؤُلَاءِ فَيَمُوجُونَ فِي النَّاسِ وَيُفْسِدُونَ عَلَى النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَيُتْلِفُونَ أَشْيَاءَهُمْ، وَهَكَذَا قَالَ السُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ﴾ قَالَ: ذَاكَ حِينَ يَخْرُجُونَ عَلَى النَّاسِ. وَهَذَا كُلُّهُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَبَعْدَ الدَّجَّالِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ [إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى] (٦) عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ﴾ [الأنبياْ: ٩٦، ٩٧] وَهَكَذَا قَالَ هَاهُنَا: ﴿وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا﴾ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ﴾ قَالَ: هَذَا أَوَّلُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ﴿وَنُفِخَ (٧) فِي الصُّورِ﴾ عَلَى أَثَرِ ذَلِكَ ﴿فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا﴾.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ﴾ أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَخْتَلِطُ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ (٨) عَنْ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ (٩) فِي قَوْلِهِ: ﴿وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ﴾ قَالَ: إِذَا مَاجَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ قَالَ إِبْلِيسُ: أَنَا أَعْلَمُ لَكُمْ عِلْمَ هَذَا الْأَمْرِ. فَيَظْعَنُ إِلَى الْمَشْرِقِ فَيَجِدُ الْمَلَائِكَةَ قَدْ بَطَّنُوا (١٠) الْأَرْضَ، ثُمَّ يَظْعَنُ إِلَى الْمَغْرِبِ فَيَجِدُ الْمَلَائِكَةَ بَطَّنُوا (١١) الْأَرْضَ فَيَقُولُ: "مَا مِنْ مَحِيصٍ". ثُمَّ يَظْعَنُ يَمِينًا وَشِمَالًا إِلَى أَقْصَى الْأَرْضِ فَيَجِدُ الْمَلَائِكَةَ بَطَّنُوا (١٢) الْأَرْضَ فَيَقُولُ: "مَا مِنْ مَحِيصٍ" فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ، إِذْ عُرِضُ لَهُ طَرِيقٌ كَالشِّرَاكِ، فَأَخَذَ عَلَيْهِ هُوَ وَذُرِّيَّتُهُ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَيْهِ إِذْ هَجَمُوا عَلَى النَّارِ، فَأَخْرَجَ اللَّهُ خَازِنًا مِنْ خُزَّانِ النار، فقال: يا إبليس، أَلَمْ تَكُنْ لَكَ الْمَنْزِلَةُ عِنْدَ رَبِّكَ؟! أَلَمْ تَكُنْ فِي الْجِنَانِ؟! فَيَقُولُ: لَيْسَ هَذَا يَوْمَ عِتَابٍ، لَوْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيَّ فَرِيضَةً لَعَبَدْتُهُ فِيهَا عِبَادَةً لَمْ يَعْبُدْهُ مِثْلَهَا أَحَدٌ من

(١) في أ: "العبث".
(٢) في ت، أ: "واساه".
(٣) في ت: "الأرض".
(٤) زيادة من ف، أ.
(٥) في ت: "بذكر".
(٦) زيادة من ف، أ.
(٧) في ت: "ينفخ".
(٨) في أ: "العمى".
(٩) في أ: "قرارة".
(١٠) في أ: "قد تطبقوا".
(١١) في أ: "قد تطبقوا".
(١٢) في أ: "قد تطبقوا".


الصفحة التالية
Icon