زَكَرِيَّا ابْنَا خَالَةٍ، وَكَانَ حَمْلُهُمَا جَمِيعًا مَعًا، فَبَلَغَنِي أَنَّ أُمَّ يَحْيَى قَالَتْ لِمَرْيَمَ: إِنِّي أَرَى أَنَّ مَا فِي بَطْنِي يَسْجُدُ لِمَا فِي بَطْنِكِ. قَالَ مَالِكٌ: أَرَى ذَلِكَ لِتَفْضِيلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَيُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مُدَّةِ حَمْلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَالْمَشْهُورُ عَنِ الْجُمْهُورِ أَنَّهَا حَمَلَتْ بِهِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: ثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ -قَالَ: وَلِهَذَا لَا يَعِيشُ وَلَدٌ لِثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج: أَخْبَرَنِي الْمُغِيرَةُ بْنُ عُثْمَانَ (١) بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيُّ، سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ وَسُئِلَ عَنْ حَبَل مَرْيَمَ، قَالَ: لَمْ يَكُنْ إِلَّا أَنْ حَمَلَتْ فَوَضَعَتْ (٢).
وَهَذَا غَرِيبٌ، وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ ظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ﴾ فَالْفَاءُ وَإِنْ كَانَتْ لِلتَّعْقِيبِ، وَلَكِنَّ تَعْقِيبَ (٣) كُلِّ شَيْءٍ بِحَسْبِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا﴾ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٢ -١٤] فَهَذِهِ الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ بِحَسْبِهَا. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ بَيْنَ كُلِّ صِفَتَيْنِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا (٤) وَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرَّةً﴾ [الْحَجِّ: ٦٣] فَالْمَشْهُورُ الظَّاهِرُ -وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ-أَنَّهَا حَمَلَتْ بِهِ كَمَا تَحْمِلُ النِّسَاءُ بِأَوْلَادِهِنَّ؛ وَلِهَذَا لَمَّا ظَهَرَتْ مَخَايِلُ الْحَمْلِ عَلَيْهَا وَكَانَ مَعَهَا فِي الْمَسْجِدِ رَجُلٌ صَالِحٌ مِنْ قَرَابَاتِهَا يَخْدِمُ مَعَهَا الْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ، يُقَالُ لَهُ: يُوسُفُ النَّجَّارُ، فَلَمَّا رَأَى ثِقَلَ بَطْنِهَا وَكِبَرَهُ، أَنْكَرَ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهَا، ثُمَّ صَرَفَهُ مَا (٥) يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَتِهَا وَنَزَاهَتِهَا وَدِينِهَا وَعِبَادَتِهَا، ثُمَّ تَأَمَّلَ مَا هِيَ فِيهِ، فَجَعَلَ أَمْرُهَا يَجُوسُ فِي فِكْرِهِ، لَا يَسْتَطِيعُ صَرْفَهُ عَنْ نَفْسِهِ، فَحَمَلَ نَفْسَهُ عَلَى أَنْ عَرَّضَ لَهَا فِي الْقَوْلِ، فَقَالَ: يَا مَرْيَمُ، إِنِّي سَائِلُكِ عَنْ أَمْرٍ فَلَا تَعْجَلِي عَلَيَّ. قَالَتْ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: هَلْ يَكُونُ قَطُّ شَجَرٌ (٦) مِنْ غَيْرِ حَبٍّ؟ وَهَلْ يَكُونُ زَرْعٌ مِنْ غَيْرِ بَذْرٍ؟ وَهَلْ يَكُونُ وَلَدٌ مِنْ غَيْرِ أَبٍ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ -فَهِمَتْ (٧) مَا أَشَارَ إِلَيْهِ-أَمَّا قَوْلُكَ: "هَلْ يَكُونُ شَجَرٌ مِنْ غَيْرِ حَبٍّ وَزَرْعٌ مِنْ غَيْرِ بَذْرٍ؟ " فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ خَلَقَ الشَّجَرَ وَالزَّرْعَ أَوَّلَ مَا خَلَقَهُمَا مِنْ غَيْرِ حَبٍّ، وَلَا بَذْرٍ "وَهَلْ خَلْقٌ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ؟ " (٨) فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ خَلَقَ آدَمَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَلَا أُمٍّ. فَصَدَّقَهَا، وسلَّم لَهَا حَالَهَا.
وَلَمَّا اسْتَشْعَرَتْ مَرْيَمُ مِنْ قَوْمِهَا اتِّهَامَهَا بِالرِّيبَةِ، انْتَبَذَتْ مِنْهُمْ مَكَانًا قَصِيًّا، أَيْ: قَاصِيًا مِنْهُمْ بَعِيدًا عَنْهُمْ؛ لِئَلَّا تَرَاهُمْ وَلَا يَرَوْهَا.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا حَمَلَتْ بِهِ وَمَلَأَتْ قُلَّتَهَا (٩) وَرَجَعَتْ، اسْتَمْسَكَ عَنْهَا الدَّمُ وَأَصَابَهَا مَا يُصِيبُ الْحَامِلَ عَلَى الْوَلَدِ مِنَ الْوَصَبِ وَالتَّرَحُّمِ وَتَغَيُّرِ اللَّوْنِ، حَتَّى فَطَرَ لِسَانُهَا، فَمَا دَخَلَ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ مَا دَخَلَ عَلَى آلِ زَكَرِيَّا، وَشَاعَ الْحَدِيثُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالُوا: "إِنَّمَا صَاحِبُهَا يُوسُفُ"، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهَا فِي الْكَنِيسَةِ غَيْرُهُ، وَتَوَارَتْ مِنَ النَّاسِ، وَاتَّخَذَتْ مِنْ دونهم حجابًا، فلا (١٠) يراها أحد ولا

(١) في أ: "بن عتبة".
(٢) في ت، أ: "وضعت".
(٣) في أ: "تعقب".
(٤) مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وسيأتي عند تفسير الآية: ٥ من سورة الحج.
(٥) في ف: "لما".
(٦) في ف: "شجر قط".
(٧) في أ: "وفهمت".
(٨) في أ: "وهل يكون ولد من غير أب".
(٩) في أ: "قلبها".
(١٠) في ف، أ: "فلم".


الصفحة التالية
Icon