وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَا تُجِدُ أَحَدًا عَاقًّا لِوَالِدَيْهِ إِلَّا وَجَدْتَهُ جَبَّارًا شَقِيًّا، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا﴾، قَالَ: وَلَا تَجِدُ سَيِّئَ الْمَلَكَةِ إِلَّا وَجَدَّتَهُ مُخْتَالًا فَخُورًا، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا﴾ [النِّسَاءِ: ٣٦]
وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ امْرَأَةً رَأَتِ ابْنَ مَرْيَمَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَيُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، فِي آيَاتٍ سَلَّطَهُ اللَّهُ عَلَيْهِنَّ، وَأَذِنَ لَهُ فِيهِنَّ، فَقَالَتْ: طُوبَى لِلْبَطْنِ الَّذِي حَمَلَكَ وَلِلثَّدْيِ الَّذِي أُرْضِعْتَ بِهِ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، يُجِيبُهَا: طُوبَى لِمَنْ تَلَا كَلَامَ (١) اللَّهِ، فَاتَّبَعَ مَا فِيهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا شَقِيًّا.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾ : إِثْبَاتٌ مِنْهُ لِعُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يَحْيَا (٢) وَيَمُوتُ وَيُبْعَثُ كَسَائِرِ الْخَلَائِقِ، وَلَكِنْ لَهُ السَّلَامَةَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الَّتِي هِيَ أَشَقُّ مَا يَكُونُ عَلَى الْعِبَادِ، [صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ] (٣)
﴿ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦) فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) ﴾.
يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَيْهِ ذَلِكَ الَّذِي قَصَصْنَا (٤) عَلَيْكَ مِنْ خَبَرِ عِيسَى، ﴿قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ﴾ أَيْ: يَخْتَلِفُ الْمُبْطِلُونَ وَالْمُحِقُّونَ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ وَكَفَرَ بِهِ؛ وَلِهَذَا قَرَأَ الْأَكْثَرُونَ: "قَوْلُ الْحَقِّ" بِرَفْعِ قَوْلٍ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ: ﴿قَوْلَ الْحَقِّ﴾.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ: "ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَالُ الْحَقَّ"، وَالرَّفْعُ أَظْهَرُ إِعْرَابًا، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ٥٩، ٦٠].
وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ خَلَقَهُ عَبْدًا نَبِيًّا، نَزَّهَ نَفْسَهُ الْمُقَدَّسَةَ فَقَالَ: ﴿مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ﴾ أَيْ: عَمَّا يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْجَاهِلُونَ الظَّالِمُونَ الْمُعْتَدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا، ﴿إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ أَيْ: إِذَا أَرَادَ شَيْئًا فَإِنَّمَا يَأْمُرُ بِهِ، فَيَصِيرُ (٥) كَمَا يَشَاءُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ٥٩، ٦٠]
وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ أَيْ: وَمِمَّا (٦) أَمَرَ عِيسَى بِهِ (٧) قَوْمَهُ وَهُوَ فِي مَهْدِهِ، أَنْ أَخْبَرَهُمْ إِذْ ذَاكَ أَنَّ اللَّهَ رَبُّهُمْ وَرَبُّهُ (٨)، وَأَمَرَهُمْ بِعِبَادَتِهِ، فَقَالَ: ﴿فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾
(٢) في أ: "يحيي ويميت".
(٣) زيادة من أ.
(٤) في ف: "قصصناه".
(٥) في ت: "فتصير".
(٦) في ت: "ربما".
(٧) في ت، ف، أ: "به عيسى".
(٨) في ت، ف: "ربه وربهم".