وَابْتَدَعُوا بِدَعًا كَثِيرَةً، وحَرَّفوا دِينَ الْمَسِيحِ، وَغَيَّرُوهُ، فَابْتَنَى حِينَئِذٍ لَهُمُ (١) الْكَنَائِسَ الْكِبَارَ فِي مَمْلَكَتِهِ كُلِّهَا: بِلَادِ الشَّامِ، وَالْجَزِيرَةِ، وَالرُّومِ، فَكَانَ مَبْلَغُ الْكَنَائِسِ فِي أَيَّامِهِ مَا يُقَارِبُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ (٢) أَلْفَ كَنِيسَةٍ، وَبَنَتْ أُمُّهُ هِيلَانَةُ قُمَامة عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي صُلِبَ فِيهِ الْمَصْلُوبُ (٣) الَّذِي تَزْعُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى أَنَّهُ الْمَسِيحُ، وَقَدْ كَذَبُوا، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاءِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ، وَافْتَرَى، وَزَعَمَ أَنَّ لَهُ وَلَدًا. وَلَكِنْ أَنْظَرَهُمْ تَعَالَى إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَجَّلَهُمْ حِلْمًا وَثِقَةً بِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّهُ الَّذِي لَا يَعْجَلُ عَلَى مَنْ عَصَاهُ، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: "إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي (٤) لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ" ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ [هُودٍ: ١٠٢] وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ (٥) مِنَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا، وَهُوَ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ" (٦). وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ [الْحَجِّ: ٤٨] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ﴾ [إِبْرَاهِيمَ: ٤٢] وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ أَيْ: يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ [وَرَسُولُهُ] (٧) وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حُقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ" (٨)
﴿أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨) ﴾

(١) في ت، ف، أ: "فابتنى لهم حينئذ".
(٢) في أ: "اثنى عشر"، وهو خطأ والصواب ما بالأصل.
(٣) في ت: "المصلون".
(٤) في ت: "إنه ليملي".
(٥) في ت: "يسمعه".
(٦) صحيح البخاري برقم (٦٠٩٩) وصحيح مسلم برقم (٢٨٠٤).
(٧) زيادة من ف، أ، والبخاري ومسلم.
(٨) صحيح البخاري برقم (٣٤٣٥) وصحيح مسلم برقم (٢٩).

﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (٤٠) ﴾.
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْكُفَّارِ [يَوْمَ الْقِيَامَةِ] (١) أَنَّهُمْ أسْمَعُ شَيْءٍ وأبْصَرُه كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ﴾ [السَّجْدَةِ: ١٢] أَيْ: يَقُولُونَ ذَلِكَ حِينَ لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يُجْدِي (٢) عَنْهُمْ شَيْئًا، وَلَوْ كَانَ هَذَا قَبْلَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ، لَكَانَ نَافِعًا لَهُمْ وَمُنْقِذًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ﴾ (٣) أَيْ: مَا أَسْمَعَهُمْ وَأَبْصَرَهُمْ ﴿يَوْمَ يَأْتُونَنَا﴾ يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴿لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ﴾ أَيْ: فِي الدُّنْيَا ﴿فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ أَيْ: لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يُبْصِرُونَ وَلَا يَعْقِلُونَ، فَحَيْثُ يُطْلَبُ مِنْهُمُ الْهُدَى لَا يَهْتَدُونَ، وَيَكُونُونَ مُطِيعِينَ حيث لا ينفعهم ذلك.
(١) زيادة من ف، أ.
(٢) في ت: "يجزي".
(٣) في أ: "به".


الصفحة التالية
Icon