قَالَ السُّدِّيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ: [فَالَّذِي عَنَى بِهِ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ: إِدْرِيسَ، وَالَّذِي عَنَى بِهِ مِنْ ذُرِّيَّةِ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ: إِبْرَاهِيمَ] (١) وَالَّذِي عَنَى بِهِ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ: إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَإِسْمَاعِيلَ، وَالَّذِي عَنَى بِهِ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْرَائِيلَ: مُوسَى، وَهَارُونَ، وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَلِذَلِكَ (٢) فَرَّقَ أَنْسَابَهُمْ، وَإِنْ كَانَ يَجْمَعُ جَمِيعَهُمْ آدَمُ؛ لِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ لَيْسَ مِنْ وَلَدِ مَنْ كَانَ مَعَ نُوحٍ فِي السَّفِينَةِ، وَهُوَ إِدْرِيسُ، فَإِنَّهُ جَدُّ نُوحٍ.
قُلْتُ: هَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّ إِدْرِيسَ فِي عَمُودِ نَسَبِ نُوحٍ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَخْذًا مِنْ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ، حَيْثُ قَالَ فِي سَلَامِهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، وَالْأَخِ الصَّالِحِ"، وَلَمْ يَقِلْ: "وَالْوَلَدِ الصَّالِحِ"، كَمَا قَالَ آدَمُ وَإِبْرَاهِيمُ (٣)، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا يُونُسُ، أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ لَهِيعة، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ (٤) أَنَّ إِدْرِيسَ أَقْدَمُ مِنْ نُوحٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى قَوْمِهِ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"، وَيَعْمَلُوا (٥) مَا شَاءُوا فَأَبَوْا، فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
[وَمِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ جنسُ الْأَنْبِيَاءِ، أَنَّهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ] (٦) إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ إِلَى أَنْ قَالَ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾ [الْأَنْعَامِ ٨٣-٩٠] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ (٧) ﴾ [غَافِرٍ: ٧٨]. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ: أَفِي "ص" سَجْدَةٌ؟ قَالَ (٨) نَعَمْ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ﴾، فَنَبِيُّكُمْ مِمَّنْ أُمِر أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ، قَالَ: وَهُوَ مِنْهُمْ، يَعْنِي دَاوُدَ (٩).
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾ أَيْ: إِذَا سَمِعُوا كَلَامَ اللَّهِ الْمُتَضَمِّنَ حُجَجه وَدَلَائِلَهُ وَبَرَاهِينَهُ، سَجَدُوا لِرَبِّهِمْ خُضُوعًا وَاسْتِكَانَةً، وَحَمْدًا وَشُكْرًا عَلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ.
"والبُكِيّ": جَمْعُ بَاكٍ، فَلِهَذَا أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى شَرْعِيَّةِ السُّجُودِ هَاهُنَا، اقْتِدَاءً بِهِمْ، وَاتِّبَاعًا لِمِنْوَالِهِمْ (١٠)
قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي مَعْمَر قَالَ: قَرَأَ عُمَرُ بن الخطاب، رضي
(٢) في أ: "وكذلك".
(٣) في ت: "إبراهيم وآدم".
(٤) في ف، أ: "بن عمر".
(٥) في ف، أ: "ويعملون" وهو خطأ والصواب ما أثبتناه.
(٦) زيادة من ت، ف، أ.
(٧) في ت، ف، أ: "عليك وكلم الله موسى تكليما".
(٨) في ف، أ: "فقال".
(٩) صحيح البخاري برقم (٤٨٠٧).
(١٠) في ف، أ: "لمواليهم".