الْأَلْوَاحَ مِنَ الْغَضَبِ، ثُمَّ إِنَّهُ عَذَرَ أَخَاهُ بِعُذْرِهِ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُ وَانْصَرَفَ (١) إِلَى السَّامِرِيِّ فَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: قَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ، وَفَطِنْتُ لَهَا (٢) وَعَمِيَتْ عَلَيْكُمْ فَقَذَفْتُهَا ﴿وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا﴾ [طه: ٩٦، ٩٧] وَلَوْ كَانَ إِلَهًا لَمْ يَخْلُصْ إِلَى ذَلِكَ مِنْهُ. فَاسْتَيْقَنَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِالْفِتْنَةِ، وَاغْتَبَطَ الَّذِينَ كَانَ رَأْيُهُمْ فِيهِ مِثْلَ رَأْيِ هَارُونَ، فَقَالُوا لِجَمَاعَتِهِمْ: يَا مُوسَى، سَلْ لَنَا رَبَّكَ أَنْ يَفْتَحَ لَنَا بَابَ تَوْبَةٍ نَصْنَعُهَا، فَيُكَفِّرَ عَنَّا مَا عَمِلْنَا. فَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِذَلِكَ، لَا يَأْلُو الْخَيْرَ، خِيَارُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمَنْ لَمْ يُشْرِكْ فِي الْعِجْلِ، فَانْطَلَقَ بِهِمْ يَسْأَلُ لَهُمُ التَّوْبَةَ، فَرَجَفَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ، فَاسْتَحْيَا نَبِيُّ اللَّهِ مِنْ قَوْمِهِ وَمِنْ وَفْدِهِ حِينَ فُعِلَ بِهِمْ مَا فُعِلَ فَقَالَ: ﴿رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا﴾ [الْأَعْرَافِ: ١٥٥] وَفِيهِمْ مَنْ كَانَ اطَّلَعَ اللَّهُ مِنْهُ (٣) عَلَى مَا أُشْرِبَ قَلْبُهُ مِنْ حُبِّ الْعِجْلِ وَإِيمَانِهِ بِهِ، فَلِذَلِكَ رَجَفَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ، فَقَالَ: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيل﴾ [الْأَعْرَافِ: ١٥٦، ١٥٧]. فَقَالَ: يَا رَبِّ، سَأَلْتُكَ التَّوْبَةَ لِقَوْمِي، فَقُلْتَ: إِنَّ رَحْمَتِي كَتَبْتُهَا لِقَوْمٍ غَيْرِ قَوْمِي، هَلَّا أَخَّرْتَنِي حَتَّى تُخْرِجَنِي فِي أُمَّةِ ذَلِكَ الرَّجُلِ الْمَرْحُومَةِ؟ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ تَوْبَتَهُمْ أَنْ يَقْتُلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ (٤) مَنْ لَقِيَ مِنْ وَالِدٍ وَوَلَدٍ، فَيَقْتُلُهُ بِالسَّيْفِ، وَلَا (٥) يُبَالِي مَنْ قَتَلَ فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ، وَتَابَ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانَ خَفِيَ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ وَاطَّلَعَ اللَّهُ مِنْ ذُنُوبِهِمْ فَاعْتَرَفُوا بِهَا، وَفَعَلُوا مَا أُمِرُوا، وَغَفَرَ اللَّهُ لِلْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ.
ثُمَّ سَارَ بِهِمْ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ (٦) مُتَوَجِّهًا نَحْوَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، وَأَخَذَ الْأَلْوَاحَ بَعْدَ مَا سَكَتَ عَنْهُ الْغَضَبُ، فَأَمَرَهُمْ بِالَّذِي أُمِرَ بِهِ أَنْ يُبَلِّغَهُمْ مِنَ الْوَظَائِفِ، فَثَقُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَأَبَوْا أَنْ يُقِرُّوا بِهَا، فَنَتَقَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَبَلَ كَأَنَّهُ ظُلَّةً، وَدَنَا مِنْهُمْ حَتَّى خَافُوا أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِمْ فَأَخَذُوا الْكِتَابَ بِأَيْمَانِهِمْ وَهُمْ مُصْغُونَ يَنْظُرُونَ إِلَى الْجَبَلِ، وَالْكِتَابُ بِأَيْدِيهِمْ، وَهُمْ مِنْ وَرَاءِ الْجَبَلِ مَخَافَةَ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ مَضَوْا حَتَّى أَتَوُا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ، فَوَجَدُوا مَدِينَةً فِيهَا قَوْمٌ جَبَّارُونَ خَلْقُهُم خَلْق مُنْكَرٌ -وَذَكَرُوا مِنْ ثِمَارِهِمْ أَمْرًا عَجِيبًا مِنْ عِظَمِهَا-فَقَالُوا: يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ، لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِمْ، وَلَا نَدْخُلُهَا مَا دَامُوا فِيهَا، فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ. قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يُخَافُون-قِيلَ لِيَزِيدَ: هَكَذَا قَرَأَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ مِنَ الْجَبَّارِينَ، آمَنَا بِمُوسَى، وَخَرَجَا إِلَيْهِ، فَقَالُوا: نَحْنُ أَعْلَمُ بِقَوْمِنَا إِنْ كُنْتُمْ إِنَّمَا تَخَافُونَ مَا رَأَيْتُمْ مِنْ أَجْسَامِهِمْ وَعَدَدِهِمْ، فَإِنَّهُمْ لَا قُلُوبَ لَهُمْ وَلَا مَنَعَة عِنْدَهُمْ، فَادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ، فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ-وَيَقُولُ أُنَاسٌ: إِنَّهُمْ (٧) مِنْ قَوْمِ مُوسَى. فَقَالَ الَّذِينَ يَخَافُونَ، بَنُو إِسْرَائِيلَ: ﴿ [قَالُوا] (٨) يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ [الْمَائِدَةِ: ٢٤] فَأَغْضَبُوا مُوسَى، فَدَعَا عَلَيْهِمْ وَسَمَّاهُمْ فَاسِقِينَ، وَلَمْ يَدْعُ عَلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ، لِمَا رَأَى

(١) في ف: "فانصرف".
(٢) في ف: "إليها".
(٣) في ف: "الله اطلع منه".
(٤) في ف: "منهم كل".
(٥) في ف: "لا".
(٦) في ف، أ: "صلى الله عليه وسلم".
(٧) في ف، أ:: إنهما".
(٨) زيادة من أ.


الصفحة التالية
Icon