وَفِي السُّنَنِ: "وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ لَمِنْهُمْ وَأَنْعَمَا" (١).
وَقَوْلُهُ: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي﴾ أَيْ: إِقَامَةٌ وَهُوَ بَدَلٌ مِنَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى، ﴿ [تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ] خَالِدِينَ فِيهَا﴾ (٢) أَيْ: مَاكِثِينَ أَبَدًا، ﴿وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى﴾ أَيْ: طَهَّرَ نَفْسَهُ مِنَ الدَّنَسِ وَالْخَبَثِ وَالشِّرْكِ، وَعَبَدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَصَدَّقَ (٣) الْمُرْسَلِينَ فِيمَا جَاءُوا به من خَبَر وطلب.

(١) سنن أبي داود برقم (٣٩٨٧) وسنن ابن ماجه برقم (٩٦).
(٢) زيادة من ف، أ.
(٣) في ف: "واتبع".

﴿وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى (٧٧) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (٧٩) ﴾.
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا أَنَّهُ أَمَرَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، حِينَ أَبَى فِرْعَوْنُ أَنْ يُرْسِلَ مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَنْ يَسْرِيَ بِهِمْ فِي اللَّيْلِ، وَيَذْهَبَ بِهِمْ مِنْ قَبْضَةِ فِرْعَوْنَ. وَقَدْ بَسَطَ اللَّهُ هَذَا الْمَقَامَ فِي غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ. وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى لَمَّا خَرَجَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَصْبَحُوا وَلَيْسَ مِنْهُمْ بِمِصْرَ لَا دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ، فَغَضِبَ فِرْعَوْنُ غَضَبًا شَدِيدًا وَأَرْسَلَ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ، أَيْ مَنْ يَجْمَعُونَ لَهُ الْجُنْدَ مِنْ بُلْدَانِهِ ورَسَاتيقه، يَقُولُ: ﴿إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ﴾ [الشُّعَرَاءِ: ٥٤، ٥٥] ثُمَّ لَمَّا جَمَعَ جُنْدَهُ وَاسْتَوْثَقَ لَهُ جَيْشُهُ، سَاقَ فِي طَلَبِهِمْ ﴿فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ﴾ [الشُّعَرَاءِ: ٦٠] أَيْ: عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ﴾ أَيْ: نَظَرَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ إِلَى الْآخَرِ ﴿قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشُّعَرَاءِ: ٦١، ٦٢]، وَوَقَفَ مُوسَى بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، الْبَحْرُ أَمَامَهُمْ، وَفِرْعَوْنُ وَرَاءَهُمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنِ ﴿اضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا﴾ فَضَرَبَ الْبَحْرَ بِعَصَاهُ، وَقَالَ: "انْفَلِقْ (١) بِإِذْنِ اللَّهِ" ﴿فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾ [الشُّعَرَاءِ: ٦٣] أَيِ: الْجَبَلِ الْعَظِيمِ. فَأَرْسَلَ اللَّهُ الرِّيحَ عَلَى أَرْضِ الْبَحْرِ فَلَفَحَتْهُ حَتَّى صَارَ يَابِسًا كَوَجْهِ الْأَرْضِ؛ فَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا﴾ أَيْ: مِنْ فِرْعَوْنَ، ﴿وَلا تَخْشَى﴾ يَعْنِي: مِنَ الْبَحْرِ أَنْ يُغْرِقَ قَوْمَكَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ﴾ (٢) أَيِ: الْبَحْرِ ﴿مَا غَشِيَهُمْ﴾ أَيِ: الَّذِي هُوَ مَعْرُوفٌ وَمَشْهُورٌ. وَهَذَا يُقَالُ عِنْدَ الْأَمْرِ الْمَعْرُوفِ الْمَشْهُورِ، كَمَا (٣) قَالَ تَعَالَى: ﴿وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى﴾ [النَّجْمِ: ٥٣، ٥٤]، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
أنَا أبُو النَّجْم وشِعْري شِعْري
أَيِ: الذي يعرف، وهو مشهور.
(١) في أ: "على".
(٢) في ف، أ: "اليم ما غشيهم".
(٣) في ف: "وكما".


الصفحة التالية
Icon