قَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا اقْتَرَبَ (١) وَقْتُ ذَلِكَ الْعِيدِ قَالَ أَبُوهُ: يَا بُنَيَّ، لَوْ خَرَجْتَ مَعَنَا إِلَى عِيدِنَا لَأَعْجَبَكَ دِينُنَا! فَخَرَجَ مَعَهُمْ، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ أَلْقَى نَفْسَهُ إِلَى الْأَرْضِ. وَقَالَ: إِنِّي سَقِيمٌ، فَجَعَلُوا يَمُرُّونَ عَلَيْهِ وَهُوَ صَرِيعٌ، فَيَقُولُونَ: مَهْ! فَيَقُولُ: إِنِّي سَقِيمٌ، فَلَمَّا جَازَ عَامَّتُهُمْ وَبَقِيَ ضُعَفَاؤُهُمْ قَالَ: ﴿تَاللَّهِ لأكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ﴾ فَسَمِعَهُ أُولَئِكَ.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا خَرَجَ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ، إِلَى عِيدِهِمْ مَرُّوا عَلَيْهِ فَقَالُوا: يَا إِبْرَاهِيمُ أَلَا تَخْرُجُ مَعَنَا؟ قَالَ: إِنِّي سَقِيمٌ. وَقَدْ كَانَ بِالْأَمْسِ قَالَ: ﴿تَاللَّهِ لأكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ﴾ فَسَمِعَهُ نَاسٌ مِنْهُمْ.
وَقَوْلُهُ: ﴿فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا﴾ أَيْ: حُطَامًا كَسَّرَهَا كُلَّهَا ﴿إِلا كَبِيرًا لَهُمْ﴾ يَعْنِي: إِلَّا الصَّنَمَ الْكَبِيرَ عِنْدَهُمْ كَمَا قَالَ: ﴿فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ﴾ [الصَّافَّاتِ: ٩٣].
وَقَوْلُهُ: ﴿لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ﴾ ذَكَرُوا أَنَّهُ وَضَعَ الْقَدُومَ فِي يَدِ كَبِيرِهِمْ، لَعَلَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي غَارَ لِنَفْسِهِ، وَأَنِفَ أَنْ تُعْبَدَ مَعَهُ هَذِهِ الْأَصْنَامُ الصِّغَارُ، فَكَسَّرَهَا.
﴿قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ أَيْ: حِينَ رَجَعُوا وَشَاهَدُوا مَا فَعَلَهُ الْخَلِيلُ بِأَصْنَامِهِمْ مِنَ الْإِهَانَةِ وَالْإِذْلَالِ الدَّالِّ عَلَى عَدَمِ إِلَهِيَّتِهَا، وَعَلَى سَخَافَةِ عُقُولِ عَابِدِيهَا ﴿قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ أَيْ: فِي صَنِيعِهِ هَذَا.
﴿قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ﴾ أَيْ: قَالَ مَنْ سَمِعَهُ يَحْلِفُ أَنَّهُ لَيَكِيدَنَّهُمْ: ﴿سَمِعْنَا فَتًى﴾ أَيْ: شَابًّا ﴿يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ﴾
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ قَابُوسٍ [عَنْ أَبِيهِ] (٢)، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا شَابًّا، وَلَا أُوتِيَ الْعَلَمَ عَالِمٌ إِلَّا وَهُوَ شَابٌّ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ﴾.
وَقَوْلُهُ: ﴿قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ﴾ أَيْ: عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ فِي الْمَلَإِ الْأَكْبَرِ بِحَضْرَةِ النَّاسِ كُلِّهِمْ، وَكَانَ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودَ الْأَكْبَرَ لِإِبْرَاهِيمَ أَنْ يَتَبَيَّنَ (٣) فِي هَذَا الْمَحْفِلِ الْعَظِيمِ كَثْرَةُ جَهْلِهِمْ وَقِلَّةُ عَقْلِهِمْ (٤) فِي عِبَادَةِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ الَّتِي لَا تَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهَا ضَرًّا، وَلَا تَمْلِكُ (٥) لَهَا نَصْرًا، فَكَيْفَ يُطْلَبُ مِنْهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؟.
﴿قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا﴾ يَعْنِي: الَّذِي تَرَكَهُ لَمْ يَكْسِرْهُ ﴿فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ﴾ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا أَنْ يُبَادِرُوا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، فَيَعْتَرِفُوا أَنَّهُمْ لَا يَنْطِقُونَ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَصْدُرُ عَنْ هَذَا الصَّنَمِ، لِأَنَّهُ جَمَادٌ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمْ يَكْذِبْ غَيْرَ ثَلَاثٍ: ثِنْتَيْنِ فِي ذَاتِ اللَّهِ (٦)، قَوْلُهُ: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا﴾ وَقَوْلُهُ ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾ قَالَ: "وَبَيْنَا هُوَ يَسِيرُ فِي أرض جبار من الجبابرة ومعه

(١) في ف: "قرب".
(٢) زيادة من ف.
(٣) في ف، أ: "يبين".
(٤) في ف: "عقولهم".
(٥) في ف: "ولا تستطيع".
(٦) في ف، أ: "كتاب".


الصفحة التالية
Icon