وَالْحَرِيقِ وَالْأَغْلَالِ، وَمَا أُعِدَّ لَهُمْ مِنَ الثِّيَابِ مِنَ النَّارِ، ذَكَرَ حَالَ أَهْلِ الْجَنَّةِ -نَسْأَلُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ أَنْ يُدْخِلَنَا الْجَنَّةَ-فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ﴾ أَيْ: تتخَرّق فِي أَكْنَافِهَا وَأَرْجَائِهَا وَجَوَانِبِهَا، وَتَحْتَ أَشْجَارِهَا وَقُصُورِهَا، يَصْرِفُونَهَا حَيْثُ شَاءُوا وَأَيْنَ شَاءُوا، ﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا﴾ مِنَ الْحِلْيَةِ، ﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا﴾ أَيْ: فِي أَيْدِيهِمْ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفِقِ عَلَيْهِ: "تَبْلُغُ الحِلْيَة مِنَ الْمُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الوُضُوء" (١).
وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مَلَكًا لَوْ شِئْتُ أَنْ أُسَمِّيَهُ لسميتُه، يَصُوغُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ الْحُلِيَّ مُنْذُ خَلَقَهُ اللَّهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَوْ أُبْرِزَ قُلْب مِنْهَا -أَيْ: سِوَارٌ مِنْهَا-لَرَدَّ شُعَاعَ الشَّمْسِ، كَمَا تَرُدُّ (٢) الشَّمْسُ نُورَ الْقَمَرِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾ : فِي مُقَابَلَةِ ثِيَابِ أَهْلِ النَّارِ الَّتِي فُصِّلَتْ لَهُمْ، لِبَاسُ هَؤُلَاءِ مِنَ الْحَرِيرِ، إِسْتَبْرَقِهِ وسُنْدُسه، كَمَا قَالَ: ﴿عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا. إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا﴾ [الْإِنْسَانِ: ٢١، ٢٢]، وَفِي الصَّحِيحِ: "لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَلَا الدِّيبَاجَ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّهُ مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ" (٣).
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: وَمَنْ لَمْ يَلْبَسِ الْحَرِيرَ فِي الْآخِرَةِ، لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾
وَقَوْلُهُ: ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ كَقَوْلِهِ ﴿وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ﴾ [إِبْرَاهِيمَ: ٢٣]، وَقَوْلِهِ: ﴿وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ [الرَّعْدِ: ٢٣، ٢٤]، وَقَوْلِهِ: ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا﴾ [الْوَاقِعَةِ: ٢٥، ٢٦]، فَهُدُوْا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي يَسْمَعُونَ فِيهِ الْكَلَامَ الطَّيِّبَ، ﴿وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا﴾ [الْفُرْقَانِ: ٧٥]، لَا كَمَا يُهَانُ أَهْلُ النَّارِ بِالْكَلَامِ الَّذِي يُرَوّعون بِهِ (٤) وَيُقَرَّعُونَ بِهِ، يُقَالُ لَهُمْ: ﴿وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾
وَقَوْلُهُ: ﴿وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ﴾ أَيْ: إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي يَحْمَدُونَ فِيهِ رَبَّهُمْ، عَلَى مَا أَحْسَنَ إِلَيْهِمْ وَأَنْعَمَ بِهِ وَأَسْدَاهُ إِلَيْهِمْ، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ: "إِنَّهُمْ يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ، كَمَا يُلْهَمُونَ النَّفَسَ".
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ أَيِ: الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقِيلَ: الْأَذْكَارُ الْمَشْرُوعَةُ، ﴿وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ﴾ أَيِ: الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ فِي الدُّنْيَا. وَكُلُّ هَذَا لَا يُنَافِي ما ذكرناه، والله أعلم.
(٢) في ف: "يرد".
(٣) الحديث في صحيح البخاري برقم (٥٤٢٦) وصحيح مسلم برقم (٢٠٦٧) من حديث حذيفة رضي الله عنه.
(٤) في ت: "يوبخون فيه"، وفي ف، أ: "يوبخون به".