حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: أَتَى عبدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو ابنَ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ جَالِسٌ فِي الحِجْر فَقَالَ: يَا بْنَ الزُّبَيْرِ، إِيَّاكَ والإلحادَ فِي الْحَرَمِ، فَإِنِّي أَشْهَدُ لسَمعتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "يَحِلُّهَا وَيَحِلُّ بِهِ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَلَوْ وُزنت ذُنُوبُهُ بِذُنُوبِ الثَّقَلَيْنِ لَوَزَنَتْهَا". قَالَ: فَانْظُرْ لَا تَكُنْ (١) هُوَ (٢).
وَلَمْ يُخْرِجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ مِنْ هَذَيْنَ الْوَجْهَيْنِ.
﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) ﴾.
هَذَا فِيهِ تَقْرِيعٌ وَتَوْبِيخٌ لِمَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ، وَأَشْرَكَ بِهِ مِنْ قُرَيْشٍ، فِي الْبُقْعَةِ الَّتِي أسسّتْ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ بَوأ إِبْرَاهِيمَ مكانَ الْبَيْتِ، أَيْ: أَرْشَدَهُ إِلَيْهِ، وَسَلَّمَهُ لَهُ، وَأَذِنَ لَهُ فِي بِنَائِهِ.
وَاسْتَدَلَّ بِهِ كَثِيرٌ مِمَّنْ قَالَ: "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، هُوَ أَوَّلُ مَنْ بَنَى الْبَيْتَ الْعَتِيقَ، وَأَنَّهُ لَمْ يُبْنَ قَبْلَهُ"، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ (٣) عَنِ أَبِي ذَرٍّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ مَسْجِدٍ وُضعَ أَوَّلُ؟ قَالَ: "الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ". قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: "بَيْتُ الْمَقْدِسِ". قُلْتُ كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: "أَرْبَعُونَ سَنَةً" (٤).
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ. فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيم﴾ الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ: ٩٦، ٩٧]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [الْبَقَرَةِ: ١٢٥].
وَقَدْ قَدَّمْنَا ذِكْرَ مَا وَرَدَ فِي بِنَاءِ الْبَيْتِ مِنَ الصِّحَاحِ وَالْآثَارِ، بِمَا أَغْنَى عَنِ إِعَادَتِهِ هَاهُنَا (٥).
وَقَالَ تَعَالَى هَاهُنَا: ﴿أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي﴾ أَيِ: ابْنه عَلَى اسْمِي وَحْدِي، ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: مِنَ الشِّرْكِ، ﴿لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ أَيِ: اجْعَلْهُ خَالِصًا لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
فَالطَّائِفُ بِهِ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أَخَصُّ الْعِبَادَاتِ عِنْدَ الْبَيْتِ، فَإِنَّهُ لَا يُفْعَلُ بِبُقْعَةٍ مِنَ الْأَرْضِ سِوَاهَا، ﴿وَالْقَائِمِينَ﴾ أَيْ: فِي الصَّلَاةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ فَقَرَنَ الطَّوَافَ بِالصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يُشْرَعَانِ إِلَّا مُخْتَصَّيْنِ بِالْبَيْتِ، فَالطَّوَافُ عِنْدَهُ، وَالصَّلَاةُ إِلَيْهِ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ، إِلَّا مَا اسْتُثْنِيَ مِنَ الصَّلَاةِ عِنْدَ اشْتِبَاهِ الْقِبْلَةِ وَفِي الْحَرْبِ، وَفِي النَّافِلَةِ فِي السِّفْرِ، وَاللَّهُ أعلم.
(٢) المسند (٢١٩١٢).
(٣) في ف: "الصحيحين".
(٤) صحيح البخاري برقم (٣٣٦٦) وصحيح مسلم برقم (٥٢٠)
(٥) انظر تفسير الآية: ١٢٥ من سورة البقرة.