عليَّ الْقُرْآنُ فَلَمْ يَحضرني مِنْهُ حَرْفٌ وَاحِدٌ، فَبَقِيتُ وَاقِفًا مُتَحَيِّرًا وَهُوَ يَقُولُ: هِيهِ. افرُغ. فَأَجْرَى اللَّهُ عَلَى لِسَانِي قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾، فَإِذَا أَنَا بِفَارِسٍ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ فَمِ الْوَادِي، وَبِيَدِهِ حَرْبَةٌ، فَرَمَى بِهَا الرَّجُلَ فَمَا أَخْطَأَتْ فُؤَادَهُ، فَخَرَّ صَرِيعًا، فَتَعَلَّقْتُ بِالْفَارِسِ وَقُلْتُ: بِاللَّهِ مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَنَا رَسُولُ [اللَّهِ] (١) الَّذِي يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ، وَيَكْشِفُ السُّوءَ. قَالَ: فَأَخَذْتُ الْبَغْلَ وَالْحَمْلَ وَرَجَعْتُ سَالِمًا.
وَذُكِرَ فِي تَرْجَمَةِ "فَاطِمَةَ بِنْتِ الْحَسَنِ أَمِّ أَحْمَدَ الْعِجْلِيَّةِ" قَالَتْ: هَزَمَ الْكَفَّارُ يَوْمًا الْمُسْلِمِينَ فِي غَزَاةٍ، فَوَقَفَ جَوَاد جَيّد بِصَاحِبِهِ، وَكَانَ مِنْ ذَوِي الْيَسَارِ وَمِنَ الصُّلَحَاءِ، فَقَالَ لِلْجَوَادِ: مَا لَكَ؟ وَيْلَكَ. إِنَّمَا كُنْتُ أَعُدُّكَ لِمِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ. فَقَالَ لَهُ الْجَوَادُ: وَمَا لِيَ لَا أُقَصِّرُ وَأَنْتَ تَكلُ عَلُوفَتِي إِلَى السُّوَّاسِ فَيَظْلِمُونَنِي وَلَا يُطْعِمُونَنِي (٢) إِلَّا الْقَلِيلَ؟ فَقَالَ: لَكَ عليَّ عَهْدُ اللَّهِ أَنِّي لَا أَعْلُفُكَ بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ إِلَّا فِي حِجْري. فَجَرَى الْجَوَادُ عِنْدَ ذَلِكَ، ونجَّى صَاحِبَهُ، وَكَانَ لَا يَعْلِفُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا فِي حِجْره، وَاشْتَهَرَ أَمْرُهُ بَيْنَ النَّاسِ، وَجَعَلُوا يَقْصِدُونَهُ لِيَسْمَعُوا مِنْهُ ذَلِكَ، وَبَلَغَ مَلِكَ الرُّومِ أمرُه، فَقَالَ: مَا تُضَام (٣) بَلْدَةٌ يَكُونُ هَذَا الرَّجُلُ فِيهَا. وَاحْتَالَ لِيُحَصِّلَهُ فِي بَلَدِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَجُلًا مِنَ الْمُرْتَدِّينَ عِنْدَهُ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ أَظْهَرَ لَهُ أَنَّهُ قَدْ حَسُنت نِيَّتُهُ فِي الْإِسْلَامِ وَقَوْمِهِ، حَتَّى اسْتَوْثَقَ، ثُمَّ خَرَجَا يَوْمًا يَمْشِيَانِ عَلَى جَنْبِ السَّاحِلِ، وَقَدْ وَاعَدَ شَخْصًا آخَرَ مِنْ جِهَةِ مَلِكِ الرُّومِ لِيَتَسَاعَدَا عَلَى أَسْرِهِ، فَلَمَّا اكْتَنَفَاهُ لِيَأْخُذَاهُ رَفَع طَرْفَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ، إِنَّهُ إِنَّمَا خَدَعني بِكَ فَاكْفِنِيهِمَا بِمَا شِئْتَ، قَالَ: فَخَرَجَ سَبُعَانِ إِلَيْهِمَا فَأَخَذَاهُمَا، وَرَجَعَ الرَّجُلُ سَالِمًا (٤).
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ﴾ أَيْ: يُخْلفُ قَرنا لِقَرْنٍ قَبْلَهُمْ وخَلَفًا لِسَلَفٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ﴾ [الْأَنْعَامِ: ١٣٣]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾ [الْأَنْعَامِ: ١٦٥]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً﴾ [الْبَقَرَةِ: ٣٠]، أَيْ: قَوْمًا يَخْلُفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَمَا قَدَّمْنَا تَقْرِيرَهُ. وَهَكَذَا هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ﴾ أَيْ: أُمَّةً بَعْدَ أُمَّةٍ، وَجِيلًا بَعْدَ جِيلٍ، وَقَوْمًا بَعْدَ قَوْمٍ. وَلَوْ شَاءَ لَأَوْجَدَهُمْ كُلَّهُمْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَجْعَلْ بعضَهم مِنْ ذُرِّيَّةِ بَعْضٍ، بَلْ لَوْ شَاءَ لَخَلَقَهُمْ (٥) كُلَّهُمْ أَجْمَعِينَ، كَمَا خَلَقَ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ. وَلَوْ شَاءَ أَنْ يَجْعَلَهُمْ بَعْضَهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ بَعْضٍ (٦) وَلَكِنْ لَا يُمِيتُ أَحَدًا حَتَّى تَكُونَ وَفَاةُ الْجَمِيعِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَكَانَتْ تَضِيقُ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ (٧) وَتَضِيقُ عَلَيْهِمْ مَعَايِشُهُمْ وَأَكْسَابُهُمْ، وَيَتَضَرَّرُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ. وَلَكِنِ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ وَقُدْرَتُهُ أَنْ يَخْلُقَهُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ يُكْثِرَهُمْ غَايَةَ الْكَثْرَةِ، وَيَذْرَأَهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَيَجْعَلَهُمْ قُرُونًا بَعْدَ قُرُونٍ، وَأُمَمًا بَعْدَ أُمَمٍ، حَتَّى يَنْقَضِيَ الْأَجَلُ وَتَفْرُغَ البَرية، كَمَا قَدَّرَ ذَلِكَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَكَمَا أَحْصَاهُمْ وعَدّهم عَدًا، ثُمَّ يُقِيمُ (٨) الْقِيَامَةَ، ويُوفي كُلَّ عَامِلٍ عمله إذا بلغ الكتاب

(١) زيادة من ف، أ.
(٢) في ف، أ: "فيظلموني ولا يطعموني".
(٣) في ف، أ: "ما نظام".
(٤) تاريخ دمشق (١٩/٤٨٩ "المخطوط").
(٥) في أ: "لجعلهم".
(٦) في ف، أ: "من ذرية بعضهم بعضا".
(٧) في ف: "تضيق الأرض عليهم".
(٨) في ف: "يوم".


الصفحة التالية
Icon