بِهِمْ جَزَاءً وِفَاقًا بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ ظَاهِرُ سِيَاقِ الْآيَةِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ، وَهُوَ أَنَّهُ ذَكَرَ الْأُمَمَ الْمُكَذِّبَةَ، ثُمَّ قَالَ: ﴿فَكُلا (١) أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ﴾ [الْآيَةَ] (٢)، أَيْ: مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ، وَإِنَّمَا نبهتُ عَلَى هَذَا لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ (٣) ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا﴾، قَالَ: قَوْمُ لُوطٍ. ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا﴾، قَالَ: قَوْمُ نُوحٍ.
وَهَذَا (٤) مُنْقَطِعٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ فَإِنَّ ابْنَ جُرْيَج لَمْ يُدْرِكْهُ. ثُمَّ قَدْ ذُكِرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ إِهْلَاكُ قَوْمِ نُوحٍ بِالطُّوفَانِ، وَقَوْمِ لُوطٍ بِإِنْزَالِ الرِّجْزِ مِنَ السَّمَاءِ، وَطَالَ السياقُ والفصلُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ هَذَا السِّيَاقِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا﴾ قَالَ: قَوْمُ لُوطٍ، ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ﴾، قَوْمُ شُعَيْبٍ. وَهَذَا بَعِيدٌ أَيْضًا لِمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢) وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ (٤٣) ﴾
هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُشْرِكِينَ فِي اتِّخَاذِهِمْ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ، يَرْجُونَ نَصْرَهُمْ وَرِزْقَهُمْ، وَيَتَمَسَّكُونَ بِهِمْ فِي الشَّدَائِدِ، فَهُمْ فِي ذَلِكَ كَبَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ فِي ضَعْفِهِ وَوَهَنِهِ (٥) فَلَيْسَ فِي أَيْدِي هَؤُلَاءِ مِنْ آلِهَتِهِمْ إِلَّا كمَنْ يَتَمَسَّكُ بِبَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ، فَإِنَّهُ لَا يُجْدِي عَنْهُ شَيْئًا، فَلَوْ عَلموا هَذَا الْحَالَ لَمَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ الْمُؤْمِنِ قَلْبُهُ لِلَّهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُحْسِنُ الْعَمَلَ فِي اتِّبَاعِ الشَّرْعِ فَإِنَّهُ مُسْتَمْسِكٌ (٦) بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا، لِقُوَّتِهَا وَثَبَاتِهَا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُتَوَعِّدًا لِمَنْ عَبَدَ غَيْرَهُ وَأَشْرَكَ بِهِ: إِنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَيَعْلَمُ مَا يُشْرِكُونَ بِهِ مِنَ الْأَنْدَادِ، وَسَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ﴾ أَيْ: وَمَا يَفْهَمُهَا وَيَتَدَبَّرُهَا إِلَّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ الْمُتَضَلِّعُونَ مِنْهُ.
قَالَ (٧) الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنِي ابْنُ لَهِيعة، عَنْ أَبِي قَبِيل (٨)، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: عَقَلْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْفَ مَثَلٍ (٩).
وَهَذِهِ مَنْقَبَةٌ عَظِيمَةٌ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللَّهُ عنه -حيث يقول [الله] (١٠) تعالى:

(١) في ت: "فمنهم" وهو خطأ.
(٢) زيادة من أ.
(٣) في ت: "عن".
(٤) في ت: "وهو".
(٥) في ت: "وذهابه".
(٦) في ف: "متمسك".
(٧) في ت: "روى".
(٨) في ت: "بإسناده".
(٩) المسند (٤/٢٠٣) وقال الهيثمي في المجمع (٨/٢٦٤) "إسناده حسن".
(١٠) زيادة من ت، وفي ف: "تبارك و".


الصفحة التالية
Icon