أَشْرَبُ فَأُرْوَى، وَأَرْفَعُ رَأْسِي تَهْنِيئًا وتَرَوّيا. وَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْغِلِّ فِي الْعُنُقِ عَنْ ذِكْرِ الْيَدَيْنِ، وَإِنْ كَانَتَا مُرَادَتَيْنِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ (١) :
فَمَا أدْري إذَا يَمَّمْتُ أرْضًا... أُرِيدُ الخَيْرَ أَيُّهُمَا يَليني...
أالْخَيْرُ الَّذِي أنَا أبْتَغيه... أَمِ الشَّرّ الَّذِي لَا يَأتَليني...
فَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ الشَّرِّ لَمّا دَلَّ السِّيَاقُ وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ، (٢) وَكَذَا هَذَا، لَمَّا كَانَ الغُلّ إِنَّمَا يُعْرَفُ فِيمَا جَمَع الْيَدَيْنِ مَعَ الْعُنُقِ، اكْتَفَى بِذِكْرِ الْعُنُقِ عَنِ الْيَدَيْنِ.
قَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ﴾ قَالَ: هُوَ كَقَوْلِ اللَّهِ (٣) تَعَالَى: ﴿وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ﴾ [الْإِسْرَاءِ: ٢٩] يَعْنِي بِذَلِكَ: أَنَّ أَيْدِيَهُمْ مُوثَقَةٌ (٤) إِلَى أَعْنَاقِهِمْ، لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَبْسُطُوهَا بِخَيْرٍ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿فَهُمْ مُقْمَحُونَ﴾ قَالَ: رافعو (٥) رؤوسهم، وَأَيْدِيهِمْ مَوْضُوعَةٌ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ، فَهُمْ مَغْلُولُونَ عَنْ كُلِّ خَيْرٍ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا﴾ : قَالَ مُجَاهِدٌ: عَنِ الْحَقِّ، ﴿وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: عَنِ الْحَقِّ، فَهُمْ يَتَرَدَّدُونَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: فِي الضَّلَالَاتِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿فَأَغْشَيْنَاهُمْ﴾ أَيْ: أَغْشَيْنَا أَبْصَارَهُمْ عَنِ الْحَقِّ، ﴿فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ أَيْ: لَا يَنْتَفِعُونَ بِخَيْرٍ وَلَا يَهْتَدُونَ إِلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: "فَأَعْشَيْنَاهُمْ" بِالْعَيْنِ الْمُهْمِلَةِ، مِنَ الْعَشَا وَهُوَ دَاءٌ فِي الْعَيْنِ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: جَعَلَ اللَّهُ هَذَا السَّدَّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، فَهُمْ لَا يَخْلُصُونَ إِلَيْهِ، وَقَرَأَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ﴾ [يونس: ٩٦، ٩٧] ثُمَّ قَالَ: مَنْ مَنَعَهُ اللَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: لَئِنْ رأيتُ مُحَمَّدًا لَأَفْعَلَنَّ وَلَأَفْعَلَنَّ، فَأُنْزِلَتْ: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿ [فَهُمْ] لَا يُبْصِرُونَ﴾ (٦)، قَالَ: وَكَانُوا يَقُولُونَ: هَذَا مُحَمَّدٌ. فَيَقُولُ: أَيْنَ هُوَ أَيْنَ هُوَ؟ لَا يُبْصِرُهُ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ وَهُمْ جُلُوسٌ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَزْعُمُ أَنَّكُمْ إِنْ تَابَعْتُمُوهُ (٧) كُنْتُمْ مُلُوكًا، فَإِذَا مُتُّمْ (٨) بُعِثْتُمْ بَعْدَ مَوْتِكُمْ، وَكَانَتْ لَكُمْ جِنَانٌ خَيْرٌ مِنْ جِنَانِ الأرْدُن وَأَنَّكُمْ إِنْ خَالَفْتُمُوهُ كَانَ لَكُمْ مِنْهُ ذَبْحٌ، ثُمَّ بُعِثْتُمْ بَعْدَ مَوْتِكُمْ وَكَانَتْ لَكُمْ نَارٌ تُعَذَّبون بِهَا. وَخَرَجَ [عَلَيْهِمْ] (٩) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ، وَفِي يَدِهِ حَفْنَةٌ مِنْ تُرَابٍ، وَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ عَلَى أَعْيُنِهِمْ دُونَهُ، فَجَعَلَ يَذُرّها على رؤوسهم، ويقرأ: ﴿يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ﴾
(٢) في ت: "لما دل عليه السياق".
(٣) في ت: "كقوله".
(٤) في ت: "موثوقة".
(٥) في ت، س: "رافعى".
(٦) زيادة من ت، أ.
(٧) في ت: " بايعتموه".
(٨) في ت: "أنتم".
(٩) زيادة من أ.