وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ﴿فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ﴾ الْآنِفِينَ. وَهُمَا لُغَتَانِ، رَجُلٌ عَابِدٌ وَعَبِدٌ (١).
وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ وَجَزَاءٌ، وَلَكِنْ هُوَ مُمْتَنِعٌ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ [فِي قَوْلِهِ] (٢) ﴿قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ﴾ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ عَبَدَهُ، بِأَنَّ لَهُ وَلَدًا، لَكِنْ لَا وَلَدَ لَهُ. وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَرَدَّ قَوْلَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ "إِنْ" نَافِيَةٌ.
وَلِهَذَا قَالَ: ﴿سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ أَيْ: تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ خَالِقُ الْأَشْيَاءِ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، فَإِنَّهُ فَرْدٌ أَحَدٌ صَمَدٌ، لَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا كُفْءَ لَهُ، فَلَا (٣) وَلَدَ لَهُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا﴾ أَيْ: فِي جَهْلِهِمْ وَضَلَالِهِمْ ﴿وَيَلْعَبُوا﴾ فِي دُنْيَاهُمْ ﴿حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ﴾ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، أَيْ: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ كَيْفَ يَكُونُ مَصِيرُهُمْ، وَمَآلُهُمْ، وَحَالُهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأرْضِ إِلَهٌ﴾ أَيْ: هُوَ إِلَهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ، وَإِلَهُ مَنْ فِي الْأَرْضِ، يَعْبُدُهُ أَهْلُهُمَا، وَكُلُّهُمْ خَاضِعُونَ لَهُ، أَذِلَّاءُ بَيْنَ يَدَيْهِ، ﴿وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ﴾
وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ﴾ [الْأَنْعَامِ: ٣] أَيْ: هُوَ الْمَدْعُوُّ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ.
﴿وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ أَيْ: هُوَ خَالِقُهُمَا وَمَالِكُهُمَا وَالْمُتَصَرِّفُ فِيهِمَا، بِلَا مُدَافَعَةٍ وَلَا مُمَانَعَةٍ، فَسُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنِ الْوَلَدِ، وَتَبَارَكَ: أَيِ اسْتَقَرَّ لَهُ السَّلَامَةُ مِنَ الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ؛ لِأَنَّهُ الرَّبُّ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ، الْمَالِكُ لِلْأَشْيَاءِ، الَّذِي بِيَدِهِ أَزِمَّةُ الْأُمُورِ نَقْضًا وَإِبْرَامًا، ﴿وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ أَيْ: لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ، ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ أَيْ: فَيُجَازِي كُلًّا بِعَمَلِهِ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ﴾ أَيْ: مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ ﴿الشَّفَاعَةَ﴾ أَيْ: لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الشَّفَاعَةِ لَهُمْ، ﴿إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ: لَكِنْ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ عَلَى بَصِيرَةٍ وَعِلْمٍ، فَإِنَّهُ تَنْفَعُ شَفَاعَتُهُ عِنْدَهُ بِإِذْنِهِ لَهُ.
ثُمَّ قَالَ: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ أَيْ: وَلَئِنْ سَأَلْتَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ الْعَابِدِينَ مَعَهُ غَيْرَهُ ﴿مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ أَيْ: هُمْ يَعْتَرِفُونَ (٤) أَنَّهُ الْخَالِقُ لِلْأَشْيَاءِ جَمِيعِهَا، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَمَعَ هَذَا يَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ، مِمَّنْ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا وَلَا يَقْدِرُ على شيء، فهم في
(٢) زيادة من أ.
(٣) في ت: "ولا".
(٤) في ت: "يعرفون".