أَشْبَهُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ أَفْرَدْتُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي جُزْءٍ عَلَى حِدَةٍ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَهَذِهِ الْجَنَّةُ لَا يَزَالُ فِيهَا فَضْلٌ حَتَّى يُنْشِئَ اللَّهُ لَهَا خَلْقًا، أَفَلَا يُسْكِنُهَا مَنْ آمَنَ بِهِ وَعَمِلَ لَهُ صَالِحًا؟ وَمَا ذَكَرُوهُ هَاهُنَا مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى الْإِيمَانِ مِنْ تَكْفِيرِ الذُّنُوبِ وَالْإِجَارَةِ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، هُوَ يَسْتَلْزِمُ دُخُولَ الْجَنَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا الْجَنَّةُ أَوِ النَّارُ، فَمَنْ أُجِيرَ مِنَ النَّارِ دَخَلَ الْجَنَّةَ لَا مَحَالَةَ. وَلَمْ يَرِدْ مَعَنَا نَصٌّ صَرِيحٌ وَلَا ظَاهِرٌ عَنِ (١) الشَّارِعِ أَنَّ مُؤْمِنِي الْجِنِّ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَإِنْ أُجِيرُوا مِنَ النَّارِ، وَلَوْ صَحَّ لَقُلْنَا بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا نُوحٌ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَقُولُ لِقَوْمِهِ: ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ [نُوحٍ: ٤]، (٢) وَلَا خِلَافَ أَنَّ مُؤْمِنِي قَوْمِهِ فِي الْجَنَّةِ، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ. وَقَدْ حُكِيَ فِيهِمْ أَقْوَالٌ غَرِيبَةٌ فَعَنْ عُمَر بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُونَ فِي رَبَضها وَحَوْلَهَا وَفِي أَرْجَائِهَا. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ يَرَاهُمْ بَنُو آدَمَ وَلَا يَرَوْنَ بَنِي آدَمَ عَكْسَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: لَا يَأْكُلُونَ فِي الْجَنَّةِ وَلَا يَشْرَبُونَ، وَإِنَّمَا يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ وَالتَّقْدِيسَ، عِوَضا عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ كَالْمَلَائِكَةِ، لِأَنَّهُمْ مِنْ جِنْسِهِمْ. وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِيهَا نَظَرٌ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهَا.
ثُمَّ قَالَ مُخْبِرًا عَنْهُ: ﴿وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرْضِ﴾ أَيْ: بَلْ قُدْرَةُ اللَّهِ شَامِلَةٌ لَهُ وَمُحِيطَةٌ بِهِ، ﴿وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ﴾ أَيْ: لَا يُجِيرُهُمْ مِنْهُ أحدٌ ﴿أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ وَهَذَا مقامُ تَهْدِيدٍ وَتَرْهِيبٍ، فَدَعَوا قَوْمَهُمْ بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ؛ وَلِهَذَا نَجَعَ فِي كَثِيرٍ منهم، وجاؤوا إلى رسول الله ﷺ وُفُودًا وُفُودًا، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (٣٥) ﴾.
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾ أَيْ: هَؤُلَاءِ الْمُنْكِرُونَ لِلْبَعْثِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الْمُسْتَبْعِدُونَ لِقِيَامِ الْأَجْسَادِ يَوْمَ الْمَعَادِ ﴿أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ﴾ أَيْ: وَلَمْ يَكْرثهُ خَلْقُهن، بَلْ قَالَ لَهَا: "كُونِي" فَكَانَتْ، بِلَا مُمَانَعَةٍ وَلَا مُخَالَفَةٍ، بَلْ طَائِعَةٌ مُجِيبَةٌ خَائِفَةٌ وَجِلَةٌ، أَفَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى؟ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [غَافِرٍ: ٥٧]، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.

(١) في أ: "من".
(٢) في ت، أ: "ويجركم" وهو خطأ.


الصفحة التالية
Icon