﴿ق﴾ : حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ الْمَذْكُورَةِ (١) فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، كَقَوْلِهِ: (ص، ن، الم، حم، طس) وَنَحْوِ ذَلِكَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ. وَقَدْ أَسْلَفْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا، فِي أَوَّلِ "سُورَةِ الْبَقَرَةِ" بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُمْ قَالُوا ﴿ق﴾ : جَبَلٌ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ الْأَرْضِ، يُقَالُ لَهُ جَبَلُ قَافٍ. وَكَأَنَّ هَذَا -وَاللَّهُ أَعْلَمُ-مِنْ خُرَافَاتِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّتِي أَخَذَهَا عَنْهُمْ بَعْضُ النَّاسِ، لَمَّا رَأَى مِنْ جَوَازِ الرِّوَايَةِ عَنْهُمْ فِيمَا (٢) لَا يُصَدَّقُ وَلَا يُكَذَّبُ. وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا وَأَمْثَالَهُ وَأَشْبَاهَهُ مِنَ اخْتِلَاقِ بَعْضِ زَنَادِقَتِهِمْ، يُلَبِّسُونَ بِهِ عَلَى النَّاسِ أَمْرَ دِينِهِمْ، كَمَا افْتُرِيَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ -مَعَ جَلَالَةِ قَدْرِ عُلَمَائِهَا وَحُفَّاظِهَا وَأَئِمَّتِهَا-أَحَادِيثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا بِالْعَهْدِ مِنْ قِدَمٍ، فَكَيْفَ بِأُمَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَ طُولِ الْمَدَى، وَقِلَّةِ الْحُفَّاظِ النُّقَّادِ فِيهِمْ، وَشُرْبِهِمُ الْخُمُورَ (٣)، وَتَحْرِيفِ عُلَمَائِهِمُ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَتَبْدِيلِ كُتُبِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ! وَإِنَّمَا أَبَاحَ الشَّارِعُ الرِّوَايَةَ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: "وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَا حَرَجَ" فِيمَا قَدْ يُجَوِّزُهُ الْعَقْلُ، فَأَمَّا فِيمَا تُحيله الْعُقُولُ وَيُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْبُطْلَانِ، وَيَغْلِبُ عَلَى الظُّنُونِ كَذِبُهُ، فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ أَكْثَرَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَكَذَا طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْخَلَفِ، مِنَ الْحِكَايَةِ عَنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، وَلَيْسَ بِهِمُ احْتِيَاجٌ إِلَى أَخْبَارِهِمْ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، حَتَّى إِنَّ الْإِمَامَ أَبَا مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، أَوْرَدَ هَاهُنَا أَثَرًا غَرِيبًا لَا يَصِحُّ سَنَدُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ:
حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: حُدِّثْتُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيِّ: حَدَّثَنَا لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ مِنْ وَرَاءِ هَذِهِ الْأَرْضِ بَحْرًا مُحِيطًا، ثُمَّ خَلَقَ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ جَبَلًا يُقَالُ لَهُ "ق" السَّمَاءُ الدُّنْيَا مَرْفُوعَةٌ عَلَيْهِ. ثُمَّ خَلَقَ اللَّهُ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ الْجَبَلِ أَرْضًا مِثْلَ تِلْكَ الْأَرْضِ سَبْعَ مَرَّاتٍ. ثُمَّ خَلَقَ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ بَحْرًا مُحِيطًا بِهَا، ثُمَّ خَلَقَ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ جَبَلًا يُقَالُ لَهُ "ق" السَّمَاءُ الثَّانِيَةُ مَرْفُوعَةٌ عَلَيْهِ، حَتَّى عَدَّ سَبْعَ أَرْضِينَ، وَسَبْعَةَ أَبْحُرٍ، وَسَبْعَةَ أجبل، وسبع سموات. قَالَ: وَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ﴾ [لُقْمَانَ: ٢٧].
فَإِسْنَادُ هَذَا الْأَثَرِ فِيهِ انْقِطَاعٌ، وَالَّذِي رَوَاهُ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿ق﴾ قَالَ: هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ.
وَالَّذِي ثَبَتَ عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُ حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ، كَقَوْلِهِ: (ص، ن، حم، طس، الم) وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهَذِهِ تُبْعِد مَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ "قضِي الْأَمْرُ واللهِ"، وَأَنَّ قَوْلَهُ: ﴿ق﴾ دَلَّتْ عَلَى الْمَحْذُوفِ مِنْ بقية الكلم (٤) كقول

(١) في م: "الذي تقدم ذكرها".
(٢) في م: "مما".
(٣) في أ: "الخمر".
(٤) في م، أ: "الكلمة".


الصفحة التالية
Icon