يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ قُدْرَتِهِ عَلَى الْإِنْسَانِ بِأَنَّهُ خَالِقُهُ، وَعَمَلُهُ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ أُمُورِهِ، حَتَّى إِنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نُفُوسُ بَنِي آدَمَ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ (١) تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَقُلْ أَوْ تَعْمَلْ" (٢).
وَقَوْلُهُ: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ يَعْنِي: مَلَائِكَتُهُ تَعَالَى أقربُ إِلَى الْإِنْسَانِ مِنْ حَبْلِ وَرِيدِهِ (٣) إِلَيْهِ. وَمَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى الْعِلْمِ فَإِنَّمَا فَرَّ لِئَلَّا يَلْزَمَ حُلُولٌ أَوِ اتِّحَادٌ، وَهُمَا مَنْفَيَّانِ بِالْإِجْمَاعِ، تَعَالَى اللَّهُ وَتَقَدَّسَ، وَلَكِنَّ اللَّفْظَ لَا يَقْتَضِيهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَقِلْ: وَأَنَا أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، وَإِنَّمَا قَالَ: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ كَمَا قَالَ فِي الْمُحْتَضِرِ: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ﴾ [الْوَاقِعَةِ: ٨٥]، يَعْنِي مَلَائِكَتَهُ. وَكَمَا قَالَ [تَعَالَى] (٤) :﴿إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الْحِجْرِ: ٩]، فَالْمَلَائِكَةُ نَزَلَتْ بِالذِّكْرِ -وَهُوَ الْقُرْآنُ-بِإِذْنِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ. وَكَذَلِكَ (٥) الْمَلَائِكَةُ أَقْرَبُ إِلَى الْإِنْسَانِ مِنْ حَبْلِ وَرِيدِهِ إِلَيْهِ بِإِقْدَارِ (٦) اللَّهِ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فالملك لَمّة فِي الْإِنْسَانِ كَمَا أَنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً وَكَذَلِكَ: "الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ"، كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ؛ وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: ﴿إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ﴾ يَعْنِي: الْمَلَكَيْنِ اللَّذَيْنِ يَكْتُبَانِ عَمَلَ الْإِنْسَانِ. ﴿عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ﴾ أَيْ: مُتَرَصِّدٌ (٧).
﴿مَا يَلْفِظُ﴾ أَيِ: ابْنُ آدَمَ ﴿مِنْ قَوْلٍ﴾ أَيْ: مَا يَتَكَلَّمُ بِكَلِمَةٍ (٨) ﴿إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ أَيْ: إِلَّا وَلَهَا مَنْ يُرَاقِبُهَا مُعْتَدٍ (٩) لِذَلِكَ يَكْتُبُهَا، لَا يَتْرُكُ كَلِمَةً وَلَا حَرَكَةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الِانْفِطَارِ: ١٠ -١٢].
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ: هَلْ يَكْتُبُ الْمَلَكُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْكَلَامِ؟ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وقَتَادَةَ، أَوْ إِنَّمَا يَكْتُبُ مَا فِيهِ ثَوَابٌ وَعِقَابٌ كَمَا هُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَلَى قَوْلَيْنِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْأَوَّلُ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ اللَّيْثِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَلْقَمَةَ، عَنْ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، يَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ (١٠). وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، يَكْتُبُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا (١١) سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ". قَالَ: فَكَانَ عَلْقَمَةُ يَقُولُ: كَمْ مِنْ كَلَامٍ قَدْ مَنَعَنِيهِ حَدِيثُ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ.
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو بِهِ (١٢). وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ
(٢) صحيح البخاري برقم (٥٢٦٩) وصحيح مسلم برقم (١٢٧).
(٣) في أ: "الوريد".
(٤) زيادة من م، أ.
(٥) في أ: "ولذلك".
(٦) في م: "باقتدار".
(٧) في م: "مرصد".
(٨) في م: "بكلام".
(٩) في م: "معد".
(١٠) في أ: "القيامة".
(١١) في م: "له بها عليه".
(١٢) المسند (٣/٤٦٩) وسنن الترمذي برقم (٢٣١٩) والنسائي في السنن الكبرى، كما في تحفة الأشراف (٢/١٠٣) وسنن ابن ماجه برقم (٣٩٦٩).