يَقُولُ (١) تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، بِأَنْ يُبَلِّغَ رِسَالَتَهُ إِلَى عِبَادِهِ، وَأَنْ يُذَكِّرَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ. ثُمَّ نَفَى عَنْهُ مَا يَرْمِيهِ بِهِ أَهْلُ الْبُهْتَانِ وَالْفُجُورِ فَقَالَ: ﴿فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ﴾ أَيْ: لَسْتَ بِحَمْدِ اللَّهِ بِكَاهِنٍ كَمَا تَقَوَّلَهُ (٢) الْجَهَلَةُ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ. وَالْكَاهِنُ: الَّذِي يَأْتِيهِ الرِّئِيُّ مِنَ الْجَانِّ بِالْكَلِمَةِ يَتَلَقَّاهَا مِنْ خَبَرِ السَّمَاءِ، ﴿وَلا مَجْنُونٍ﴾ : وَهُوَ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِمْ فِي الرَّسُولِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ: ﴿أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ﴾ أَيْ: قَوَارِعُ الدَّهْرِ. وَالْمَنُونُ: الْمَوْتُ: يَقُولُونَ: نُنْظِرُهُ وَنَصْبِرُ عَلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمَوْتُ فَنَسْتَرِيحَ مِنْهُ وَمِنْ شَأْنِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ﴾ أَيِ: انْتَظِرُوا فَإِنِّي مُنْتَظِرٌ مَعَكُمْ، وَسَتَعْلَمُونَ لِمَنْ تَكُونُ الْعَاقِبَةُ وَالنُّصْرَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
قَالَ محمد بن إسحاق، عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا اجْتَمَعُوا فِي دَارِ النَّدْوَةِ فِي أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: احْتَبِسُوهُ (٣) فِي وِثَاقٍ، ثُمَّ تَرَبَّصُوا بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ حَتَّى يَهْلَكَ، كَمَا هَلَكَ مَنْ هَلَكَ قَبْلَهُ مِنَ الشُّعَرَاءِ: زُهَيْرٌ وَالنَّابِغَةٌ، إِنَّمَا هُوَ كَأَحَدِهِمْ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: ﴿أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ﴾ (٤).
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا﴾ أَيْ: عُقُولُهُمْ تَأْمُرُهُمْ بِهَذَا الَّذِي يَقُولُونَهُ فِيكَ مِنَ الْأَقْوَالِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي يَعْلَمُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّهَا كَذِبٌ وَزُورٌ؟ ﴿أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾ أَيْ: وَلَكِنْ هُمْ قَوْمٌ ضُلَّالٌ مُعَانِدُونَ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَحْمِلُهُمْ عَلَى مَا قَالُوهُ فِيكَ.
وَقَوْلُهُ: ﴿أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ﴾ أَيِ: اخْتَلَقَهُ وَافْتَرَاهُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، يَعْنُونَ الْقُرْآنَ: قَالَ اللَّهُ: ﴿بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ أَيْ: كُفْرُهُمْ هُوَ الَّذِي يَحْمِلُهُمْ (٥) عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ. ﴿فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ﴾ أَيْ: إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ فِي قَوْلِهِمْ: "تَقوَّله وَافْتَرَاهُ" فَلْيَأْتُوا بِمِثْلِ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (٦) مِنْ هَذَا الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُمْ لَوِ اجْتَمَعُوا هُمْ وَجَمِيعُ أَهْلِ الْأَرْضِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، مَا جَاءُوا بِمِثْلِهِ، وَلَا بِعَشْرِ سُوَرٍ [مِنْ] (٧) مِثْلِهِ، وَلَا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ.
(٢) في م: "يقوله".
(٣) في أ: "احبسوه".
(٤) رواه الطبري في تفسيره (٢٧/١٩) من طريق ابن إسحاق به
(٥) في م: "حملهم"
(٦) زيادة من أ.
(٧) زيادة من م.