أَحْسَنِ صُورَةٍ فَقَالَ لِي: يَا مُحَمَّدُ، هَلْ تَدْرِي فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى؟ فَقُلْتُ: لَا يَا رَبِّ. فَوَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ فَوَجَدْتُ بَرْدَها بَيْنَ ثدييّ، فعلمت ما في السموات وَالْأَرْضِ، فَقُلْتُ: يَا رَبِّ، فِي الدَّرَجَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ، وَنَقْلِ الْأَقْدَامِ إِلَى الجُمُعات (١)، وَانْتِظَارِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ. فَقُلْتُ: يَا رَبِّ إِنَّكَ اتَّخَذْتَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وكلمتَ مُوسَى تَكْلِيمًا، وَفَعَلْتَ وَفَعَلْتَ، فَقَالَ: أَلَمْ أَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ؟ أَلَمْ أَضَعْ عَنْكَ وِزْرَك؟ أَلَمْ أَفْعَلْ بِكَ؟ أَلَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: "فَأَفْضَى إِلَيَّ بِأَشْيَاءَ لَمْ يُؤْذَنْ لِي أَنْ أُحَدِّثَكُمُوهَا" قَالَ: "فَذَاكَ قَوْلُهُ فِي كِتَابِهِ: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى. فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى. فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى. مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾، فَجَعَلَ نُورَ بَصَرِي فِي فُؤَادِي، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ بِفُؤَادِي". إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ (٢).
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ بِسَنَدِهِ إِلَى هَبَّار بْنِ الْأَسْوَدِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ أَبِي لَهَبٍ لَمَّا خَرَجَ فِي تِجَارَةٍ إِلَى الشَّامِ قَالَ لِأَهْلِ مَكَّةَ: اعْلَمُوا أَنِّي كَافِرٌ بِالَّذِي دَنَا فَتَدَلَّى. فَبَلَغَ قَوْلُهُ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: "سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كِلَابِهِ". قَالَ هَبَّارٌ: فَكُنْتُ مَعَهُمْ، فَنَزَلْنَا بِأَرْضٍ كَثِيرَةٍ الْأُسْدِ، قَالَ: فلقد رأيت الأسد جاء فجعل يشم رؤوس الْقَوْمِ وَاحِدًا وَاحِدًا، حَتَّى تَخَطَّى إِلَى عُتْبَةَ فَاقْتَطَعَ رَأْسَهُ مِنْ بَيْنِهِمْ (٣).
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ فِي السِّيرَةِ: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِأَرْضِ الزَّرْقَاءِ، وَقِيلَ: بِالسَّرَاةِ، وَأَنَّهُ خَافَ لَيْلَتَئِذٍ، وَأَنَّهُمْ جَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ وَنَامُوا مِنْ حَوْلِهِ، فَجَاءَ الْأَسَدُ فَجَعَلَ يَزْأَرُ، ثُمَّ تَخَطَّاهُمْ إِلَيْهِ فَضَغَمَ رَأْسَهُ، لَعَنَهُ اللَّهُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى﴾، هَذِهِ هِيَ الْمَرَّةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي رَأَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا جِبْرِيلَ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا، وَكَانَتْ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي الْإِسْرَاءِ بِطُرُقِهَا وَأَلْفَاظِهَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ "سُبْحَانَ" بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هَاهُنَا، وَتَقَدَّمَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، كَانَ يُثْبِتُ الرُّؤْيَةَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، وَيَسْتَشْهِدُ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَتَابَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَقَدْ خَالَفَهُ جَمَاعَاتٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَة، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْش، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى﴾، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رَأَيْتُ جِبْرِيلَ وَلَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ، يَنْتَثِرُ مِنْ رِيشِهِ التَّهَاوِيلُ: الدُّرُّ وَالْيَاقُوتُ" (٤). وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ.
وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ جَامِعِ بْنِ أَبِي رَاشِدٍ، عَنْ أَبِي وائل،

(١) في أ: "الجماعات".
(٢) تفسير الطبري (٢٧/٢٨).
(٣) مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (٢٧/٦٣) ولم يقع لي في ترجمته فيما بين يدي من مخطوطات تاريخ دمشق.
(٤) المسند (١/٤٦٠).


الصفحة التالية
Icon