وَهَذَا التَّفْسِيرُ أَعَمُّ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنَّ الْحَاضِرَ وَالْبَادِيَ مِنْ غَنِيٍّ وَفَقِيرٍ الْكُلُّ (١) مُحْتَاجُونَ لِلطَّبْخِ وَالِاصْطِلَاءِ وَالْإِضَاءَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ. ثُمَّ مِنْ لُطْفِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ أَوْدَعَهَا فِي الْأَحْجَارِ، وَخَالِصِ الْحَدِيدِ بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ الْمُسَافِرُ مِنْ حَمْلِ ذَلِكَ فِي مَتَاعِهِ وَبَيْنَ ثِيَابِهِ، فَإِذَا احْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ فِي مَنْزِلِهِ أَخْرَجَ زَنْدَهُ وَأَوْرَى، وَأَوْقَدَ نَارَهُ فَأَطْبَخَ بِهَا وَاصْطَلَى، وَاشْتَوَى وَاسْتَأْنَسَ بِهَا، وَانْتَفَعَ بِهَا سَائِرَ الِانْتِفَاعَاتِ. فَلِهَذَا أُفْرِدَ الْمُسَافِرُونَ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَامًّا فِي حَقِّ النَّاسِ كُلِّهِمْ. وَقَدْ يُسْتَدَلُّ لَهُ بِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي خِدَاش حَبَّان بْنِ زَيد الشَّرعَبي الشَّامي، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ قَرَن، أَنَّ رسول الله ﷺ قال: "الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ: النَّارِ وَالْكَلَأِ وَالْمَاءِ" (٢).
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثلاثٌ لَا يُمْنَعْنَ: الْمَاءُ وَالْكَلَأُ وَالنَّارُ" (٣).
وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا مِثْلُ هَذَا وَزِيَادَةُ: "وَثَمَنُهُ حَرَامٌ" (٤). وَلَكِنْ فِي إِسْنَادِهِ "عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خِرَاش بْنِ حَوْشب" وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ أَيِ: الَّذِي بِقُدْرَتِهِ خَلَقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الْمُخْتَلِفَةَ الْمُتَضَادَّةَ الْمَاءَ الْعَذْبَ الزُّلَالَ الْبَارِدَ، وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ مِلْحًا أُجَاجًا كَالْبِحَارِ الْمُغْرِقَةِ. وَخَلَقَ النَّارَ الْمُحْرِقَةَ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مَصْلَحَةً لِلْعِبَادِ، وَجَعَلَ هَذِهِ مَنْفَعَةً لَهُمْ فِي مَعَاشِ دُنْيَاهُمْ، وَزَاجِرًا لَهُمْ فِي الْمَعَادِ.
﴿فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) ﴾.
(٢) المسند (٥/٣٦٤) وسنن أبي داود برقم (٣٤٧٧).
(٣) سنن ابن ماجه برقم (٢٤٧٢).
(٤) سنن ابن ماجه برقم (٢٤٧٢).
﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لَا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٨٠) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢) ﴾.
قَالَ جُوَيبر، عَنِ الضَّحَّاكِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُقْسِمُ بِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَكِنَّهُ اسْتِفْتَاحٌ يَسْتَفْتِحُ بِهِ كَلَامَهُ.
وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ. وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ قَسَمٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، يُقْسِمُ بِمَا شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى عَظَمَتِهِ. ثُمَّ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: "لَا" هَاهُنَا زَائِدَةٌ، وَتَقْدِيرُهُ: أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ. وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْر. وَيَكُونُ جَوَابُهُ: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ﴾.
وَقَالَ آخَرُونَ: لَيْسَتْ "لَا" زَائِدَةً لَا مَعْنًى لَهَا، بَلْ يُؤْتَى بِهَا فِي أَوَّلِ الْقَسَمِ إِذَا كَانَ مُقْسَمًا بِهِ عَلَى مَنْفِيٍّ، كَقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: "لَا وَاللَّهِ مَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ" وَهَكَذَا هَاهُنَا تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: "لَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمْتُمْ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ سِحْرٌ أَوْ كِهَانَةٌ، بَلْ هُوَ قُرْآنٌ كَرِيمٌ".