وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا ابنُ أَبِي عُمَر العَدَني (١) قَالَ: قَالَ سُفْيَانُ ﴿لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ﴾ قَالَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ: حوَّلَ سُفْيَانُ وَجْهَهُ عَلَى يَمِينِهِ، وَنَظَرَ بِعَيْنِهِ شَزْرا، ثُمَّ قَالَ: هُمْ (٢) هَذَا.
وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّ هَذَا السِّيَاقَ كُلَّهُ نَزَلَ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ كَمَا سَنُورِدُهُ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبِهِ الثِّقَةُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ: وَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة -يَعْنِي مَرْجعَه مِنْ أُحُدٍ-وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ -كَمَا حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ-لَهُ مَقَامٌ يَقُومه كُلَّ جُمُعة لَا ينُكر، شَرَفًا لَهُ مِنْ نَفْسِهِ وَمِنْ قَوْمِهِ، وَكَانَ فِيهِمْ شَرِيفًا، إِذَا جَلَسَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ قَامَ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، أَكْرَمَكُمُ اللَّهُ بِهِ، وَأَعَزَّكُمْ بِهِ، فَانْصُرُوهُ وعَزّروه، وَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا. ثُمَّ جَلَسَ، حَتَّى إِذَا صَنَعَ يَوْمَ أُحد مَا صَنَع -يَعْنِي مَرْجِعَهُ بِثُلُثِ الْجَيْشِ-وَرَجَعَ النَّاسُ قَامَ يَفْعَلُ ذَلِكَ كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ، فَأَخَذَ الْمُسْلِمُونَ بِثِيَابِهِ مِنْ نَوَاحِيهِ وَقَالُوا: اجْلِسْ، أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ، لَسْتَ لِذَلِكَ بِأَهْلٍ، وَقَدْ صنعتَ مَا صنعتَ. فَخَرَجَ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَكَأَنَّمَا قُلْتُ بَجْرًا؛ أَنْ قُمت أُشَدِّدُ أَمْرَهُ. فَلَقِيَهُ رِجَالٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بِبَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالُوا: وَيْلَكَ. مَا لَكَ؟ قَالَ: قمتُ أُشَدِّدُ أَمْرَهُ، فَوَثَبَ عَلَيَّ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَجْذِبُونَنِي وَيُعَنِّفُونَنِي، لَكَأَنَّمَا قُلْتُ بَجْرًا، أَنْ قُمْتُ أُشَدِّدُ أَمْرَهُ. قَالُوا: وَيْلَكَ. ارْجِعْ يَسْتَغْفِرْ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَبْتَغِي أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِي (٣)
وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَذَلِكَ أَنَّ غُلَامًا مِنْ قَرَابَتِهِ انْطَلَقَ إلى رسول الله ﷺ فَحَدَّثَهُ بِحَدِيثٍ عَنْهُ وَأَمْرٍ شَدِيدٍ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا هُوَ يَحْلِفُ بِاللَّهِ وَيَتَبَرَّأُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَقْبَلَتِ الْأَنْصَارُ عَلَى ذَلِكَ الْغُلَامِ فَلَامُوهُ وعَذَموه (٤) وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ مَا تَسْمَعُونَ، وَقِيلَ لِعَدُوِّ (٥) اللَّهِ: لَوْ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَجَعَلَ يَلْوِي رَأْسَهُ، أَيْ: لَسْتُ فَاعِلًا (٦)
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنِ سَعِيدِ بْنُ جُبَيْرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا نَزَلَ مَنْزِلًا لَمْ يَرْتَحِلْ حَتَّى يُصَلِّيَ فِيهِ، فَلَمَّا كَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ بَلَغَهُ أنَّ عبدَ الله ابن أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ قَالَ: ﴿لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ﴾ فَارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ آخِرَ النَّهَارِ، وَقِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ: ائْتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَسْتَغْفِرَ لَكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ﴾
وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فِيهِ نَظَرٌ، بَلْ لَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ خَرَجَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، بَلْ رَجَعَ بِطَائِفَةٍ مِنَ الْجَيْشِ. وَإِنَّمَا الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِ الْمَغَازِي وَالسِّيَرِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي غَزْوَةِ المُرَيسيع، وَهِيَ غَزْوَةُ بَنِي المصطلق.
(٢) في م، أ: "هو".
(٣) السيرة النبوية لابن هشام (٢/١٠٥).
(٤) في م: "وعزلوه"، وفي أ: "عرموه".
(٥) في م، أ: "وقيل لعبد".
(٦) رواه الطبري في تفسيره (٢٨/٧١).