نَعَمْ. فصُوِّر لَهُمْ مَثَلُهُ، قَالَ: وَوَضَعُوهُ فِي نَادِيهِمْ وَجَعَلُوا يَذْكُرُونَهُ. فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنْ ذِكْرِهِ قَالَ: هَلْ لَكُمْ أَنْ أَجْعَلَ فِي مَنْزِلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ تِمْثَالًا مِثْلَهُ، فَيَكُونَ (١) لَهُ فِي بَيْتِهِ فَتَذْكُرُونَهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَمَثَّلَ لِكُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ تِمْثَالًا مِثْلَهُ، فَأَقْبَلُوا فَجَعَلُوا يَذْكُرُونَهُ بِهِ، قَالَ: وَأَدْرَكَ أَبْنَاؤُهُمْ فَجَعَلُوا يَرَوْنَ مَا يَصْنَعُونَ بِهِ، قَالَ وَتَنَاسَلُوا ودَرَس أَمْرُ ذِكْرِهِمْ إِيَّاهُ، حَتَّى اتَّخَذُوهُ إِلَهًا يَعْبُدُونَهُ مَنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلَادُ أَوْلَادِهِمْ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا عُبِدَ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ: الصَّنَمُ الَّذِي سَمَّوْهُ وَدّا.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا﴾ يَعْنِي: الْأَصْنَامَ الَّتِي اتَّخَذُوهَا أَضَلُّوا بِهَا خَلْقًا كَثِيرًا، فَإِنَّهُ اسْتَمَرَّتْ عِبَادَتُهَا فِي الْقُرُونِ إِلَى زَمَانِنَا هَذَا فِي الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ وَسَائِرِ صُنُوفِ بَنِي آدَمَ. وَقَدْ قَالَ الْخَلِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي دُعَائِهِ: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ﴾ [إِبْرَاهِيمَ: ٣٥، ٣٦].
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا ضَلالا﴾ دُعَاءٌ مِنْهُ عَلَى قَوْمِهِ لِتَمَرُّدِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، كَمَا دَعَا مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ وَمَثَلِهِ فِي قَوْلِهِ: ﴿رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ﴾ [يُونُسَ: ٨٨] وَقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ لِكُلٍّ مِنَ النَّبِيَّيْنِ فِي قَوْمِهِ، وَأَغْرَقَ أُمَّتَهُ بِتَكْذِيبِهِمْ لِمَا جَاءَهُمْ بِهِ.
﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (٢٥) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا تَبَارًا (٢٨) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿مِمَّا خَطايَاهُمْ﴾ وَقُرِئَ: ﴿خَطِيئَاتِهِمْ﴾ ﴿أُغْرِقُوا﴾ أَيْ: مِنْ كَثْرَةِ ذُنُوبِهِمْ وَعُتُوِّهِمْ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَمُخَالَفَتِهِمْ رَسُولَهُمْ ﴿أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا﴾ أَيْ: نُقِلُوا مِنْ تَيَّارِ الْبِحَارِ (٢) إِلَى حَرَارَةِ النَّارِ، ﴿فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا﴾ أَيْ: لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مُعِينٌ وَلَا مُغيث وَلَا مُجير يُنْقِذُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ: ﴿قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ﴾ [هُودٍ: ٤٣].
﴿وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾ أَيْ: لَا تَتْرُكْ عَلَى [وَجْهِ] (٣) الْأَرْضِ مِنْهُمْ أَحَدًا وَلَا تُومُريَّا (٤) وَهَذِهِ مِنْ صِيَغِ تَأْكِيدِ النَّفْيِ.
قَالَ الضَّحَّاكُ: ﴿دَيَّارًا﴾ وَاحِدًا. وَقَالَ السُّدِّي: الدَّيَّارُ: الَّذِي يَسْكُنُ الدَّارَ.
فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ، فَأَهْلَكَ جَمِيعَ مَنْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ حَتَّى وَلَدَ نُوحٍ لِصُلْبِهِ الَّذِي اعْتَزَلَ عَنْ أَبِيهِ، وَقَالَ: ﴿سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾ [هود: ٤٣].
(٢) في م: "البحر".
(٣) زيادة من م، أ.
(٤) في م: "ولادومريا".