فِي هَذَا؟ فَقُلْنَا: كُنَّا نَقُولُ: يُولَدُ عَظِيمٌ، يَمُوتُ عَظِيمٌ، فَقَالَ: "لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ إِذَا قَضَى الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ"، وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَوْرَدْنَاهُ فِي سُورَةِ "سَبَأٍ" بِتَمَامِهِ (١) وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى تَطَلُّبِ السَّبَبِ فِي ذَلِكَ، فَأَخَذُوا يَضْرِبُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، فَوَجَدُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِأَصْحَابِهِ فِي الصَّلَاةِ، فَعَرَفُوا أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي حُفِظَتْ مِنْ أَجْلِهِ السَّمَاءُ، فَآمَنَ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ، وَتَمَرَّدَ فِي طُغْيَانِهِ مَنْ بَقِيَ، كَمَا تَقَدَّمَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ، عِنْدَ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ "الْأَحْقَافِ": ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ﴾ الْآيَةَ ٢٩. وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَمَّا حَدَثَ هَذَا الْأَمْرُ وَهُوَ كَثْرَةُ الشُّهُبِ فِي السَّمَاءِ وَالرَّمْيُ بِهَا، هَالَ ذَلِكَ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ وَانْزَعَجُوا لَهُ وَارْتَاعُوا لِذَلِكَ، وَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ لِخَرَابِ الْعَالَمِ -كَمَا قَالَ السُّدِّيُّ: لَمْ تَكُنِ السَّمَاءُ تُحْرَسُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْأَرْضِ نَبِيٌّ أَوْ دِينٌ لِلَّهِ ظَاهِرٌ، فَكَانَتِ الشَّيَاطِينُ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ اتَّخَذَتِ الْمَقَاعِدَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، يَسْتَمِعُونَ مَا يَحْدُثُ فِي السَّمَاءِ مِنْ أَمْرٍ. فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا نَبِيًّا، رُجموا لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي، فَفَزِعَ لِذَلِكَ أَهْلُ الطَّائِفِ، فَقَالُوا: هَلَكَ أَهْلُ السَّمَاءِ، لَمَّا رَأَوْا مِنْ شِدَّةِ النَّارِ فِي السَّمَاءِ وَاخْتِلَافِ الشُّهُبِ. فَجَعَلُوا يُعْتِقُونَ أَرِقَّاءَهُمْ ويُسَيِّبون مَوَاشِيَهُمْ، فقال لهم عبد يا ليل بْنُ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ: وَيْحَكُمْ يَا مَعْشَرَ أَهْلِ الطَّائِفِ. أَمْسِكُوا عَنْ أَمْوَالِكُمْ، وَانْظُرُوا إِلَى مَعَالِمِ النُّجُومِ فَإِنْ رَأَيْتُمُوهَا مُسْتَقِرَّةً فِي أَمْكِنَتِهَا فَلَمْ يَهْلِكْ أَهْلُ السَّمَاءِ، إِنَّمَا هَذَا مِنْ أَجْلِ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ -يَعْنِي: مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-وَإِنْ أَنْتُمْ لَمْ تَرَوْهَا فَقَدْ هَلَكَ أَهْلُ السَّمَاءِ. فَنَظَرُوا فَرَأَوْهَا، فَكَفُّوا عَنْ أَمْوَالِهِمْ. وَفَزِعَتِ الشَّيَاطِينُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَأَتَوْا إِبْلِيسَ فَحَدَّثُوهُ بِالَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ، فَقَالَ: ائْتُونِي مِنْ كُلِّ أَرْضٍ بِقَبْضَةٍ مِنْ تُرَابٍ أَشُمُّهَا. فَأَتَوْهُ فَشَم فَقَالَ: صَاحِبُكُمْ بِمَكَّةَ. فَبَعَثَ سَبْعَةَ نَفَرٍ مِنْ جِنِّ نُصَيْبِينَ، فَقَدِمُوا مَكَّةَ فَوَجَدُوا رَسُولَ اللَّهِ (٢) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَدَنَوْا مِنْهُ حِرْصًا عَلَى الْقُرْآنِ حَتَّى كَادَتْ كَلَاكِلُهُمْ تُصِيبُهُ، ثُمَّ أَسْلَمُوا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى أَمْرَهُمْ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْفَصْلَ مُسْتَقْصًى فِي أَوَّلِ الْبَعْثِ مِنْ (كِتَابِ السِّيرَةِ) الْمُطَوَّلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
﴿وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الأرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا (١٣) ﴾

(١) عند تفسير الآية: ٢٣.
(٢) في م: "نبي الله".

﴿وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (١٤) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (١٥) وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (١٧) ﴾
يَقُولُ مُخْبِرًا عَنِ الْجِنِّ: أَنَّهُمْ قَالُوا مُخْبِرِينَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ: ﴿وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ﴾ أَيْ: غَيْرُ ذَلِكَ، ﴿كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا﴾ أَيْ: طَرَائِقَ مُتَعَدِّدَةً مُخْتَلِفَةً وَآرَاءَ مُتَفَرِّقَةً.


الصفحة التالية
Icon