﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلا (١٠) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلا (١١) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالا وَجَحِيمًا (١٢) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (١٣) يَوْمَ تَرْجُفُ الأرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلا (١٤) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا (١٥) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلا (١٦) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (١٧) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولا (١٨) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يَقُولُهُ مَنْ كَذَّبَهُ مِنْ سُفَهَاءِ قَوْمِهِ، وَأَنْ يَهْجُرَهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا وَهُوَ الَّذِي لَا عِتَابَ مَعَهُ. ثُمَّ قَالَ لَهُ مُتَوَعِّدًا لِكَفَّارِ قَوْمِهِ وَمُتَهَدِّدًا -وَهُوَ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا يَقُومُ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ-:
﴿وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ﴾ أَيْ: دَعْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ الْمُتْرَفِينَ أصحابَ الْأَمْوَالِ، فَإِنَّهُمْ عَلَى الطَّاعَةِ أَقْدَرُ مِنْ غَيْرِهِمْ وَهُمْ يُطَالِبُونَ مِنَ الْحُقُوقِ بِمَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ، ﴿وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلا﴾ أَيْ: رُوَيْدًا، كَمَا قَالَ: ﴿نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ [لُقْمَانَ: ٢٤] ؛ وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: ﴿إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالا﴾ وَهِيَ: الْقُيُودُ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَطَاوُسٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، وَأَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ، وَأَبُو مِجلَز، وَالضَّحَّاكُ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سَلْمَانَ، وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَالثَّوْرِيُّ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ، ﴿وَجَحِيمًا﴾ وَهِيَ السَّعِيرُ الْمُضْطَرِمَةُ.
﴿وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَنْشَبُ فِي الْحَلْقِ فَلَا يَدْخُلُ وَلَا يَخْرُجُ.
﴿وَعَذَابًا أَلِيمًا يَوْمَ تَرْجُفُ الأرْضُ وَالْجِبَالُ﴾ أَيْ: تُزَلْزَلُ، ﴿وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلا﴾ أَيْ: تَصِيرُ كَكُثْبَانِ الرَّمْلِ بَعْدَ مَا كَانَتْ حِجَارَةً صَمَّاءَ، ثُمَّ إِنَّهَا تُنْسَفُ نَسْفًا فَلَا يَبْقَى مِنْهَا شَيْءٌ إِلَّا ذَهَبَ، حَتَّى تَصِيرَ الْأَرْضُ قَاعًا صَفْصَفًا، لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا، أَيْ: وَادِيًا، وَلَا أَمْتًا، أَيْ: رَابِيَةً، وَمَعْنَاهُ: لَا شَيْءَ يَنْخَفِضُ وَلَا شَيْءَ يَرْتَفِعُ.
ثُمَّ قَالَ مُخَاطِبًا لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ، وَالْمُرَادُ سَائِرُ النَّاسِ: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ﴾ أَيْ: بِأَعْمَالِكُمْ، ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلا﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَالثَّوْرِيُّ: ﴿أَخْذًا وَبِيلا﴾ أَيْ: شَدِيدًا، أَيْ فَاحْذَرُوا أَنْتُمْ أَنْ تُكَذِّبُوا هَذَا الرَّسُولَ، فَيُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَ فِرْعَوْنَ، حَيْثُ أَخَذَهُ اللَّهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى﴾ [النَّازِعَاتِ: ٢٥] وَأَنْتُمْ أَوْلَى بِالْهَلَاكِ وَالدَّمَارِ إِنْ كَذَّبْتُمْ؛ لِأَنَّ رَسُولَكُمْ أَشْرَفُ وَأَعْظَمُ مِنْ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ. ويُروَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ.
وَقَوْلُهُ: ﴿فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا﴾ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ﴿يَوْمًا﴾ مَعْمُولًا لِتَتَّقُونَ، كَمَا حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "فَكَيْفَ تَخَافُونَ أَيُّهَا النَّاسُ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوَلَدَانَ شِيبًا إِنْ كَفَرْتُمْ بِاللَّهِ وَلَمْ تُصَدِّقُوا بِهِ"؟ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا لِكَفَرْتُمْ، فَعَلَى الْأَوَّلِ: كَيْفَ


الصفحة التالية
Icon