فِي الْمَعَايِشِ (١) فِي عَرْضِ النَّهَارِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ "الْفُرْقَانِ" (٢).
﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا﴾ أَيْ: يَغْشَى النَّاسَ ظَلَامُهُ وَسَوَادُهُ، كَمَا قَالَ: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا﴾ [الشَّمْسِ: ٤] وَقَالَ الشَّاعِرُ (٣) :
فَلَمَّا لَبِسْنَ اللَّيْلَ، أَوْ حِينَ نَصَّبتْ... لَهُ مِن خَذا آذانِها وَهْوَ جَانِحُ...
وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا﴾ أَيْ: سَكَنًا.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا﴾ أَيْ: جَعَلْنَاهُ مُشْرِقًا مُنيرًا (٤) مُضِيئًا، لِيَتَمَكَّنَ النَّاسُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ وَالذِّهَابِ وَالْمَجِيءِ لِلْمَعَاشِ وَالتَّكَسُّبِ وَالتِّجَارَاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا﴾ يَعْنِي: السموات السَّبْعَ، فِي اتِّسَاعِهَا وَارْتِفَاعِهَا وَإِحْكَامِهَا وَإِتْقَانِهَا، وَتَزْيِينِهَا بِالْكَوَاكِبِ الثَّوَابِتِ وَالسَّيَّارَاتِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا﴾ يَعْنِي: الشَّمْسَ الْمُنِيرَةَ عَلَى جَمِيعِ الْعَالَمِ الَّتِي يَتَوَهَّجُ ضَوْؤُهَا لِأَهْلِ الْأَرْضِ كُلِّهِمْ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَنزلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا﴾ قَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿الْمُعْصِرَاتِ﴾ الرِّيحُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الحَفَري (٥) عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ المِنْهَال، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَأَنزلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ﴾ قَالَ: الرِّيَاحُ. وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَمُقَاتِلٌ، وَالْكَلْبِيُّ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: وَابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: إِنَّهَا الرِّيَاحُ. وَمَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهَا تَسْتَدِرُّ الْمَطَرَ مِنَ السَّحَابِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿مِنَ الْمُعْصِرَاتِ﴾ أَيْ: مِنَ السَّحَابِ. وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ أَيْضًا، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالضَّحَّاكُ، وَالْحَسَنُ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَالثَّوْرِيُّ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ السَّحَابُ الَّتِي تَتَحَلَّب بِالْمَطَرِ وَلَمْ تُمطر بعدُ، كَمَا يُقَالُ امْرَأَةٌ مُعْصِرٌ، إِذَا دَنَا حَيْضُهَا وَلَمْ تَحِضْ.
وَعَنِ الحسن، وقتادة: ﴿مِنَ الْمُعْصِرَاتِ﴾ يعني: السموات. وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُعْصِرَاتِ: السَّحَابُ، كَمَا قَالَ [اللَّهُ] (٦) تَعَالَى: ﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ﴾ [الرُّومِ: ٤٨] أَيْ: مِنْ بَيْنِهِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿مَاءً ثَجَّاجًا﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: ﴿ثَجَّاجًا﴾ مُنْصَبًّا. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: مُتَتَابِعًا. وَقَالَ ابن زيد: كثيرا.

(١) في م: "في المعاش".
(٢) عند تفسير الآية ٤٧.
(٣) هو ذو الرمة، والبيت في تفسير الطبري (٣٠/٣).
(٤) في أ: "نيرا".
(٥) في أ: "الجوني".
(٦) زيادة من م.


الصفحة التالية
Icon