وَقَوْلُهُ: ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا﴾ أَيْ: لَا يَجِدُونَ فِي جَهنَّم بَرْدًا لِقُلُوبِهِمْ، وَلَا شَرَابًا طَيِّبًا يَتَغَذَّوْنَ بِهِ. وَلِهَذَا قَالَ: ﴿إِلا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا﴾ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: اسْتَثْنَى مِنَ الْبَرْدِ الْحَمِيمَ وَمِنَ الشَّرَابِ الْغَسَاقَ. وَكَذَا قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ. فَأَمَّا الْحَمِيمُ: فَهُوَ الْحَارُّ الَّذِي قَدِ انْتَهَى حَرُّهُ وحُموه. والغَسَّاق: هُوَ مَا اجْتَمَعَ مِنْ صَدِيدِ أَهْلِ النَّارِ وَعَرَقِهِمْ وَدُمُوعِهِمْ وَجُرُوحِهِمْ، فَهُوَ بَارِدٌ لَا يُسْتَطَاعُ مِنْ بَرْدِهِ، وَلَا يُوَاجَهُ مَنْ نَتَنِهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى الْغَسَّاقِ فِي سُورَةِ "ص" (١) بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، أَجَارَنَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا﴾ يَعْنِي: النَّوْمَ، كَمَا قَالَ الْكِنْدِيُّ:
بَرَدت مَرَاشفها عَلَيّ فَصَدَّنِي... عَنْهَا وَعَنْ قُبُلاتها، البَرْدُ...
يَعْنِي بِالْبَرْدِ: النُّعَاسُ وَالنَّوْمُ (٢) هَكَذَا ذَكَرَهُ وَلَمْ يَعزُه إِلَى أَحَدٍ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ، عَنْ مُرَّةَ الطَّيِّبِ. وَنَقَلَهُ عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا. وَحَكَاهُ الْبَغَوِيُّ عَنْ أَبِي عُبَيدة، وَالْكِسَائِيُّ أَيْضًا.
وَقَوْلُهُ: ﴿جَزَاءً وِفَاقًا﴾ أَيْ: هَذَا الَّذِي صَارُوا إِلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ وَفق أَعْمَالِهِمُ الْفَاسِدَةِ الَّتِي كَانُوا يَعْمَلُونَهَا فِي الدُّنْيَا. قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
ثُمَّ قَالَ: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا﴾ أَيْ: لَمْ يَكُونُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ ثَمَّ دَارًا يُجَازَوْنَ فِيهَا وَيُحَاسَبُونَ، ﴿وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا﴾ أَيْ: وَكَانُوا يُكَذِّبُونَ بِحُجَجِ اللَّهِ وَدَلَائِلِهِ عَلَى خَلْقِهِ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَى رُسُلِهِ، فَيُقَابِلُونَهَا بِالتَّكْذِيبِ وَالْمُعَانَدَةِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿كِذَّابًا﴾ أَيْ: تَكْذِيبًا، وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ غَيْرِ الْفِعْلِ. قَالُوا: وَقَدْ سُمع أَعْرَابِيٌّ يَسْتَفْتِي الفَرّاءَ عَلَى الْمَرْوَةِ: الحلقُ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَوِ القِصار؟ وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ (٣) :
لَقَد طالَ مَا ثَبَّطتنِي عَن صَحَابَتِي... وَعَنْ حِوَجٍ قَضَاؤُهَا مِن شفَائيا...
وَقَوْلُهُ: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا﴾ أَيْ: وَقَدْ عَلِمنا أعمالَ العباد كلهم، وكتبناهم عَلَيْهِمْ، وَسَنَجْزِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ.
وَقَوْلُهُ: ﴿فَذُوقُوا فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا﴾ أَيْ: يُقَالُ لِأَهْلِ النَّارِ: ذُوقُوا مَا أَنْتُمْ فِيهِ، فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا مِنْ جنسهِ، ﴿وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ﴾ [ص: ٥٨].
قَالَ قَتَادَةُ: عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَزْدِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: لَمْ يَنْزِلْ عَلَى أَهْلِ النَّارِ آيَةٌ أَشَدُّ مِنْ هَذِهِ: ﴿فَذُوقُوا فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا﴾ قَالَ: فَهُمْ فِي مَزِيدٍ مِنَ الْعَذَابِ أَبَدًا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مصعب الصوري، حدثنا خالد بن عبد
(٢) تفسير الطبري (٣٠/٩).
(٣) البيت في تفسير الطبري (٣٠/١١).