قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعة، حَدَّثَنَا عَبْدُ رَبِّهِ (١) بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَدْخُلُ النَّارَ إِلَّا شَقِيٌّ". قِيلَ: وَمَنِ الشَّقِيُّ؟ قَالَ: "الَّذِي لَا يَعْمَلُ بِطَاعَةٍ، وَلَا يَتْرُكُ لِلَّهِ مَعْصِيَةً" (٢).
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يُونُسُ وسُريج قَالَا حَدَّثَنَا فُلَيح، عَنْ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيرة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ أُمَّتِي تَدْخُلُ الْجَنَّةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا مَنْ أَبَى". قَالُوا: وَمَنْ يَأْبَى يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى".
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ فُلَيح، بِهِ (٣)
وَقَوْلُهُ: ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الأتْقَى﴾ أَيْ: وسَيُزَحزح عَنِ النَّارِ التَّقِيُّ النَّقِيُّ الْأَتْقَى.
ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى﴾ أَيْ: يَصْرِفُ مَالَهُ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ؛ لِيُزَكِّيَ نَفْسَهُ وَمَالَهُ وَمَا وَهَبَهُ اللَّهُ مِنْ دِينٍ وَدُنْيَا.
﴿وَمَا لأحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى﴾ أَيْ: لَيْسَ بَذْله حَالَهُ (٤) فِي مُكَافَأَةِ مَنْ أَسْدَى إِلَيْهِ مَعْرُوفًا، فَهُوَ يُعْطِي فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا دَفَعَهُ ذَلِكَ ﴿ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى﴾ أَيْ: طَمَعًا فِي أَنْ يَحْصُلَ لَهُ رُؤْيَتُهُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَلَسَوْفَ يَرْضَى﴾ أَيْ: وَلَسَوْفَ يَرْضَى مَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ.
وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ حَكَى الْإِجْمَاعَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى ذَلِكَ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِيهَا، وَأَوْلَى الْأُمَّةِ (٥) بِعُمُومِهَا، فَإِنَّ لَفْظَهَا لَفْظُ الْعُمُومِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الأتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لأحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى﴾ وَلَكِنَّهُ مُقَدَّمُ الْأُمَّةِ وَسَابِقُهُمْ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ وَسَائِرِ الْأَوْصَافِ الْحَمِيدَةِ؛ فَإِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا تَقِيًا كَرِيمًا جَوَادًا بَذَّالًا لِأَمْوَالِهِ فِي طَاعَةِ مَوْلَاهُ، وَنُصْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ، فَكَمْ مِنْ دَرَاهِمَ (٦) وَدَنَانِيرَ (٧) بَذَلَهَا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْكَرِيمِ، وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ عِنْدَهُ منّةٌ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُكَافِئَهُ بِهَا، وَلَكِنْ كَانَ فَضْلُهُ وَإِحْسَانُهُ عَلَى السَّادَاتِ وَالرُّؤَسَاءِ مِنْ سَائِرِ الْقَبَائِلِ؛ وَلِهَذَا قَالَ لَهُ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ -وَهُوَ سَيِّدُ ثَقِيفٍ، يَوْمَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ-: أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا يَدٌ لَكَ كَانَتْ عِنْدِي لَمْ أَجْزِكَ بِهَا لَأَجَبْتُكَ. وَكَانَ الصِّدِّيقُ قَدْ أَغْلَظَ لَهُ فِي الْمَقَالَةِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالُهُ مَعَ سَادَاتِ الْعَرَبِ وَرُؤَسَاءِ الْقَبَائِلِ، فَكَيْفَ بِمَنْ عَدَاهُمْ؟ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَمَا لأحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى﴾ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ دَعَته خَزَنَةُ الْجَنَّةِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، هَذَا خَيْرٌ"، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا عَلَى مَنْ يُدعى مِنْهَا ضَرُورَةٌ فَهَلْ يُدْعَى مِنْهَا كُلِّهَا أَحَدٌ؟ قَالَ: "نَعَمْ، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ" (٨).
آخِرُ تَفْسِيرِ سورة "الليل" ولله الحمد والمنة (٩)

(١) في أ: "حدثنا عبد الله".
(٢) المسند (٢/٣٤٩).
(٣) المسند (٢/٣٦١) وصحيح البخاري برقم (٧٢٨٠).
(٤) في أ: "ماله".
(٥) في أ: "الآية".
(٦) في م، أ: "من درهم".
(٧) في أ: "ودينار".
(٨) صحيح البخاري برقم (٢٨٤١) وصحيح مسلم برقم (١٠٢٧) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(٩) في أ: "ولله الحمد والمنة والثناء الحسن الجميل".


الصفحة التالية
Icon