فَأَمَّا صَاحِبُ الْعِلْمِ فَيَزْدَادُ رِضَا الرَّحْمَنِ، وَأَمَّا صَاحِبُ الدُّنْيَا فَيَتَمَادَى فِي الطُّغْيَانِ. قَالَ ثُمَّ قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: ﴿إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾ وَقَالَ لِلْآخَرِ: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فَاطِرٍ: ٢٨].
وَقَدْ رُوي هَذَا مَرْفُوعًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْهُومَانِ لَا يَشْبَعَانِ: طَالِبُ عِلْمٍ، وَطَالِبُ دُنْيَا" (١).
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى﴾ نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ، لَعَنَهُ اللَّهُ، تَوَعَّدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّلَاةِ عِنْدَ الْبَيْتِ، فَوَعَظَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أَوَّلًا فَقَالَ: ﴿أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى﴾ أَيْ: فَمَا ظَنُّكَ إِنْ كَانَ هَذَا الَّذِي تَنْهَاهُ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمَةِ فِي فِعْلِهِ، أَوْ ﴿أَمَرَ بِالتَّقْوَى﴾ بِقَوْلِهِ، وَأَنْتَ تَزْجُرُهُ وَتَتَوَعَّدُهُ عَلَى صِلَاتِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾ أَيْ: أَمَا عَلِمَ هَذَا النَّاهِي لِهَذَا الْمُهْتَدِي أَنَّ اللَّهَ يَرَاهُ وَيَسْمَعُ كَلَامَهُ، وَسَيُجَازِيهِ عَلَى فِعْلِهِ أَتَمَّ الْجَزَاءِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُتَوَعِّدًا وَمُتَهَدِّدًا: ﴿كَلا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ﴾ أَيْ: لَئِنْ لَمْ يَرْجِعْ عَمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ الشِّقَاقِ وَالْعِنَادِ ﴿لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ﴾ أَيْ: لنَسمَنَّها سَوَادًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
ثُمَّ قَالَ: ﴿نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ﴾ يَعْنِي: نَاصِيَةَ أَبِي جَهْلٍ كَاذِبَةً فِي مَقَالِهَا خَاطِئَةً فِي فعَالها.
﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ﴾ أَيْ: قَوْمَهُ وَعَشِيرَتَهُ، أَيْ: لِيَدَعُهُمْ يَسْتَنْصِرُ بِهِمْ، ﴿سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾ وَهُمْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، حَتَّى يَعْلَمَ مَنْ يغلبُ: أحزبُنا أَوْ حِزْبُهُ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الجَزَري، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: لَئِنْ رَأَيْتُ مُحَمَّدًا يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ لَأَطَأَنَّ عَلَى عُنُقه. فبَلغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: "لَئِنْ فَعَلَهُ لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَةُ". ثُمَّ قَالَ: تَابَعَهُ عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ -يَعْنِي ابْنَ عَمْرٍو-عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ (٢).
وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ فِي تَفْسِيرِهِمَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، بِهِ (٣) وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي كُرَيْب، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ عَدِيّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، بِهِ (٤).
وَرَوَى أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ (٥) وَابْنُ جَرِيرٍ -وَهَذَا لَفْظُهُ-من طريق داود بن أبي هند، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عِنْدَ الْمَقَامِ فَمَرَّ بِهِ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَلَمْ أَنْهَكَ عَنْ هَذَا؟ -وَتَوعَّده-فَأَغْلَظَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وانتهره، فقال: يا محمد،
(٢) صحيح البخاري برقم (٤٩٥٨).
(٣) سنن الترمذي برقم (٣٣٤٨) وسنن النسائي برقم (١١٦٨٥).
(٤) تفسير الطبري (٣٠/١٦٥).
(٥) في م، أ: "والترمذي والنسائي".