جَهَلَةُ الشِّيعَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ قَالَ بَعْدَ هَذَا: "فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ".
وَقَوْلُهُ: "وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ" يَعْنِي: عَدَمُ تَعْيِينِهَا لَكُمْ، فَإِنَّهَا إِذَا كَانَتْ مُبْهَمَةً اجْتَهَدْ طُلابها فِي ابْتِغَائِهَا فِي جَمِيعِ مَحَالِّ رَجَائِهَا، فَكَانَ أَكْثَرَ لِلْعِبَادَةِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا عَلِمُوا (١) عَيْنَهَا فَإِنَّهَا كَانَتِ الْهِمَمُ تَتَقَاصَرُ عَلَى قِيَامِهَا فَقَطْ. وَإِنَّمَا اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ إِبْهَامَهَا لِتَعُمَّ الْعِبَادَةُ جَمِيعَ الشَّهْرِ فِي ابْتِغَائِهَا، وَيَكُونُ الِاجْتِهَادُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ (٢) أَكْثَرَ. وَلِهَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ. ثُمَّ اعْتَكَفَ أزواجهُ مِنْ بَعْدِهِ. أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ (٣).
وَلَهُمَا عَنِ ابْنُ عُمَرَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ (٤).
وَقَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ، أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَشَدَّ الْمِئْزَرَ. أَخْرَجَاهُ (٥).
وَلِمُسْلِمٍ عَنْهَا (٦) كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ (٧).
وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهَا: "وَشَدَّ الْمِئْزَرَ". وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ: اعْتِزَالُ النِّسَاءِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنِ الْأَمْرَيْنِ، لِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا سُرَيج، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَر، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَة، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَقِيَ عَشْرٌ مِنْ رَمَضَانَ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَاعْتَزَلَ نِسَاءَهُ. انْفَرَدَ بِهِ أَحْمَدُ (٨).
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، أَنَّ جَمِيعَ لَيَالِي الْعَشْرِ فِي تَطَلُّبِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ عَلَى السَّوَاءِ، لَا يَتَرَجَّحُ مِنْهَا لَيْلَةٌ عَلَى أُخْرَى: رَأَيْتُهُ فِي شَرْحِ الرَّافِعِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَالْمُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنَ الدُّعَاءِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، وَفِي شَهْرِ رَمَضَانَ أَكْثَرُ، وَفِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْهُ، ثُمَّ فِي أَوْتَارِهِ أَكْثَرُ. وَالْمُسْتَحَبُّ أَنَّ يُكْثِرَ مِنْ هَذَا الدُّعَاءِ: "اللَّهُمَّ، إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ، فَاعْفُ عَنِّي"؛ لِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا يَزِيدُ -هُوَ ابْنُ هَارُونَ-حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ (٩) -وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ إِيَاسٍ-عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُريدة، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَمَا أَدْعُو؟ قَالَ: "قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تحب العفو، فاعف عني" (١٠).

(١) في أ: "إذا عملوا".
(٢) في أ: "الأخير".
(٣) صحيح البخاري برقم (٢٠٢٦) وصحيح مسلم برقم (١١٧٢).
(٤) صحيح البخاري برقم (٢٠٢٥) وصحيح مسلم برقم (١١٧١).
(٥) صحيح البخاري برقم (٢٠٢٤) وصحيح مسلم برقم (١١٧٤).
(٦) في م: "عنهما".
(٧) صحيح مسلم برقم (١١٧٥).
(٨) المسند (٦/٦٦).
(٩) في م: "الجوهري".
(١٠) المسند (٦/١٨٢).


الصفحة التالية
Icon