فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَرَآهُ مُقْبِلًا قَالَ لِلْمُسْلِمِينَ: "قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ". وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِيَكُونَ أَنْفَذَ لِحُكْمِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَأَمَّا اتِّخَاذُهُ دَيْدَنًا فَإِنَّهُ مِنْ شِعَارِ الْعَجَمِ. وَقَدْ جَاءَ فِي السُّنَنِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ إِذَا جَاءَ لَا يَقُومُونَ لَهُ، لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهَتِهِ (١) لِذَلِكَ (٢) (٣)
وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ فِي السُّنَنِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْلِسُ حَيْثُ انْتَهَى بِهِ الْمَجْلِسُ، وَلَكِنْ حَيْثُ يَجْلِسُ يَكُونُ صَدْرُ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، وَكَانَ الصَّحَابَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، يَجْلِسُونَ مِنْهُ عَلَى مَرَاتِبِهِمْ، فَالصِّدِّيقُ يُجْلِسُهُ عَنْ يَمِينِهِ، وَعُمَرُ عَنْ يَسَارِهِ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ غَالِبًا عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ؛ لِأَنَّهُمَا كَانَا مِمَّنْ يَكْتُبُ (٤) الْوَحْيَ، وَكَانَ يَأْمُرُهُمَا بِذَلِكَ، كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي مَعْمَر، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: "لِيَليني منكم أولوا الْأَحْلَامِ والنُّهَى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ" (٥) وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِيَعْقِلُوا عَنْهُ مَا يَقُولُهُ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا أَمَرَ أُولَئِكَ النَّفَرَ بِالْقِيَامِ لِيَجْلِسَ الَّذِينَ وَرَدُوا مَنْ أَهْلِ بَدْرٍ، إِمَّا لِتَقْصِيرِ أُولَئِكَ فِي حَقِّ الْبَدْرِيِّينَ، أَوْ لِيَأْخُذَ الْبَدْرِيُّونَ مِنَ الْعِلْمِ بِنَصِيبِهِمْ، كَمَا أَخَذَ أُولَئِكَ قَبْلَهُمْ، أَوْ تَعْلِيمًا بِتَقْدِيمِ الْأَفَاضِلِ إِلَى الْأَمَامِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيع، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارة بْنِ عُمَيْرٍ (٦) التَّيْمِيِّ (٧) عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ مَنَاكِبَنَا فِي الصَّلَاةِ وَيَقُولُ: "اسْتَوُوا وَلَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ، لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ والنُّهى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ". قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ (٨) فَأَنْتُمُ الْيَوْمَ أَشَدُّ اخْتِلَافًا.
وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ، إِلَّا التِّرْمِذِيَّ، مِنْ طُرُقٍ عَنِ الْأَعْمَشِ، بِهِ (٩)
وَإِذَا كَانَ هَذَا أَمْرَهُ لَهُمْ فِي الصَّلَاةِ أَنْ يَلِيَهُ الْعُقَلَاءُ (١٠) ثُمَّ الْعُلَمَاءُ، فَبِطْرِيقِ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَقِيمُوا الصُّفُوفَ، وحَاذُوا بَيْنَ الْمَنَاكِبِ، وسُدّوا الْخَلَلَ، ولِينُوا بِأَيْدِي إِخْوَانِكُمْ، وَلَا تَذَروا فُرُجَاتٍ لِلشَّيْطَانِ، وَمَنْ وَصَل صَفًّا وَصَلَهُ اللَّهُ، وَمَنْ قَطَعَ صَفًّا قَطَعَهُ الله" (١١)

(١) في م: "من كراهيته".
(٢) رواه الترمذي في السنن برقم (٢٧٥٤) من حديث أنس، رضي الله عنه.
(٣) وللإمام النووي-رحمه الله-رسالة سماها: "الترخيص بالقيام لذوى الفضل والمزية من أهل الإسلام" أطنب في الكلام على هذه المسألة، وهى مطبوعة بدار الفكر بدمشق.
(٤) في م: "يكتبان".
(٥) صحيح مسلم برقم (٤٣٢).
(٦) في أ: "بكير".
(٧) في م، أ: "الليثي".
(٨) في أ: "سعيد".
(٩) المسند (٤/١٢٢) وصحيح مسلم برقم (٤٣٢) وسنن أبي داود برقم (٦٧٤) وسنن النسائي (٢/٨٧) وسنن ابن ماجة برقم (٩٧٦).
(١٠) في أ: "الفضلاء".
(١١) سنن أبي داود برقم (٦٦٦).


الصفحة التالية
Icon